قد يكون الموضوع مستهلكا و سبق أن تطرق له العديد من شباب جيلي سواءً عبر مقالات أو تغريدات أو حتى ( حكاوي قهاوي ) .. لكن تجربة كل منا وإن تشابهت في قصص تعتبر تجربة مليئة بالذكريات ( العجيبة ) نحكيها دون ملل لـ ( عيالنا ) .. و تلك القصص و الذكريات تستحق خلوداً تضاهي به خلود عصير فواكه الجواهر الثلاث وحتى السن توب .. لا أنسى كيف كنا نكتب رسائل الغزل على ورق ( بمبي ) أو أوراق مسطرة أو حتى ورق مربعات .. المهم أن نكتب و نكذب و الأهم أن نعطر تلك الرسائل ( بالكلونيا ) و ( ننشفها ) عَ المكيف .. نبعث بالرسائل وننتظر الرد .. يوم إثنين .. أسبوع قد يأتي الرد حاملاً فرحة تسع ( الحارة كلها ) أو فرحة لا تجيء .. لا قنوات فضائية ولا إنترنت ولا جوال بكاميرا يااااادوب القناة السعودية الأولى و الثانية و ( ق1 / ق2 ) في الصيف فقط لأننا أهل جدة محظوظين بجوار مصر .. جيب الإريَل يمين .. لأ شوية شُمال لأ يمين .. جات جات ( مشوشة يا واد شوية شُمال ) و بحكم عشقي الجامح ( للكورة ) من القصص التي لا أنساها أبداً وهو دافعي لكتابة المقالة .. مباراة مفصلية هامة في تاريخ الإتحاد في نصف بطولة آسيا عام 1995م والتي أقيمت في دولة الإمارات .. بداية أنا من جيل الإتحاد اللي ( صحي من نومه ) ليشجع الإتحاد بالوراثة ( كـ معظم الأشياء التي نتوارثها جيلاَ بعد جيل ) رُغماً عنا دون جدل .. نشاهده في فترته المتواضعة ( بطولة كل فين وفين ) .. المهم وصولنا لنصف نهائي بطولة قارية في ذلك الوقت أهم من بطولة كأس العالم التي أقيمت قبلها بعام واحد فقط في أمريكا .. والمباراة منقولة على التلفزيون ( ياااااااااااااااااه ) ما هذه الرفاهية العظيمة ..؟؟!! و قبل نهاية الشوط الثاني من مباراة الإتحاد و الشعب الإماراتي و تقريباً ما بعد الدقيقة 90 ينقطع الإرسال و الإتحاد متقدم بهدف عبد الله فوال إن لم تخني الذاكرة .. خلاص إيش باقي على المباراة .. مبروووووك للشعب الإتحادي الوصول للنهائي مهما كان الخصم قوياً أو خبيراً فنحن أمام إنجاز تاريخي في ذلك الوقت .. والفرحة عمت أرجاء جدة .. نهنئ أنفسنا و ( عيال حارتنا ) و ( نطقطق ) على الأهلاوية كعادتنا التي لا نمل منها رغم سطوة الأهلي في ذلك الوقت ( لكن أهيه فرصة وجات لعندنا ) .. ونصبح على فرح !!! فرح مين دي ؟؟ عنوان عريض في صحافة اليوم التالي أن الإتحاد ودع البطولة أوبببببا !! كيف كده ؟ ( أترينّه ) بعد إنقطاع الإرسال ، المباراة أمتدت لـ 9 دقائق وقت بدل ضائع و ( أترينّه ) فريق الشعب الإمارتي سجل التعادل في الدقيقة 98 و أمتدت المباراة لوقت إضافي ثم ضربات ترجيح وخسرنا 5-4 كل دا حصل و ما عرفنا إلا اليوم الثاني ..! يا بخت جيل اليوم بس نعم هو جيل محظوظ بأعلى انواع التقنية المعلوماتية و الفضائية .. يتابع مباراته عبر جواله في ( الحمام ) ونحن كنا ( نستنى ) لثاني يوم عشان نعرف النتيجة ..! بل وفي مباريات الدوري الغير منقوله كنا نتصل على تليفون النادي الخط مشغول .. مشغول .. مشغول .. مشغول .. ( أخيراً دق وجانا الرد ) 1-0 صلاح المولد ( طوط طوط طوط ) .. مو بس كده عندما سنحت لي الفرصة للدراسة خارج المملكة .. كنت أعرف نتيجة المباراة من الصحافة السعودية اللي تجينا متأخرة (( يومين )) .. ولا ابلكيشن ولا يحزنون ..! وكأني أرى ولدي ( عبودي ) بنظرة ساخرة و ضحكة صفرا ( ايش أم القصص الأسطورية دي ؟ ) وتركني غارق في الذكريات ..
تمهيد : أخترت هذا الكتاب لشعوري بحاجتنا كأمة و كمجتمع لفهم معنى قبول الآخر فهي السبيل الوحيد للإرتقاء بالعلاقات و انا على رأسهم .. لست أدعي المثالية ولا أطالب المجتمع بالمثالية التي أعتقد أنها بعيدة المنال ولكني مؤمن بأن قبول بعضنا البعض مهما تعددت أفكارنا وأختلفت معتقداتنا لها من الإيجابيات ما لا يمكن حصره في كلمات مدونة ولا صفحات كتب .. عن المؤلف: هو الدكتور ميلاد حنا - كاتب ومفكر سياسي مصري الجنسية كان من ضمن المشاهير الذين تم إعتقالهم في فترة الرئيس أنور السادات قبيل إغتياله ، توفى سنة 2012 عن عمر يناهز الـ88 عام . له عدة مؤلفات أهمها:
خصوصية مصر
صراع الحضارات والبديل الإنساني
الأعمدة السبعة للشخصية المصرية
أزمة الأقليات في الوطن العربي
قبول الآخر - فكر وإقتناع و ممارسة
إن تباين ألوان الأزهار وأنواع النباتات و كذا دنيا الأسماك و الحيوانات والحشرات هو مشابهٌ تماماً لتنوع الجنس / الصحة و التنوع الإقتصادي و الديني عند البشر ..
يولد المرء منا دون رغبة أو وعي أو إرادة من ذاته ..
لذا ليس لنا أي فضل في إيجابية شيء دون الآخر و الإحساس بالزهو و الإحباط هو أمرٌ مكتسب ..
في إطار كل دين توجد مذاهب و فرق عدة وغالباً ما تكون هناك كراهية بين مذاهب الدين الواحد تتفوق و تزيد تجاه أديان أخرى ..
ليس للإنسان فضلٌ في كونه مولوداً في مجتمع متقدم ويحمل جنسية دولة عظمى وآخر ولد في معسكر لاجئين فبات من دون جنسية ..
يشارك المجتمع في صياغة الرؤية بمجرد نمو الوعي فنغرق بين الإنتماءات الموروثة والمكتسبة من خلال التعليم / الأسرة / الإعلام و الخبرة ..
لأن الإنسان كائن مجتمعي (أي يعيش في جماعات) فتتراكم لديه إنتماءات كثيرة ما بين موروثة ومكتسبة لذا وجب تعريف كل منها على حدى:
فالإنتماء الموروث: أسرة - قبيلة - دين - مذهب - وطن
أما الإنتماء المكتسب: سياسي - رياضي - إجتماعي - مهني
كلما زادت إهتمامات الإنسان كلما زادت إنتماءاته و كان بطبيعة الحال متفهماً للآخرين والعكس بالعكس ..
وكلما ركز الإنسان على إنتماء واحد فإن توجهه الفكري و الوجداني يصبح بالتبعية إحادياً فيدفعه ذلك أن يكون متعصباً يكره الآخرين ولا يقبلهم ..
ثقافة السلام لا تنتعش إلا بالتنوع وإنتشار قيم المجتمع المدني الذي يفتح آفاقاً لنشاطات إجتماعية و ترقية الفنون والتواصل القوي ..
إن الإعتراف بخصوصية الثقافة للشعوب والجماعات لابد أن يولد رغبة حقيقية للتعرف على غيرها من خلال حوار الحضارات بدلاً من الإصطدام ..
فالإنتماءات لا تُفرض و لا تنزع بقرار فوقي ، لأنها تجسيد لوجدان وشاعر عامة لدى الشعوب تتراكم في سنين وربما قرون ..
دائماً ما تتبلور الرؤى ومناهج الفكر في شكل إختلاف بين البشر كأفراد يتحول إلى خلاف بين المجموعات البشرية من معتقد الصحة أو الأصح ..
ليس من حق المجتمع التدخل في أمر ثقافة كراهية الآخر ، فهذا نوع من أسلحة الدمار النفسي للشعوب فمتى ننضج لطرح مثل هكذا قضايا ؟؟
هنالك من يدعو المجتمعات بالتماسك الداخلي عبر بث كراهية الآخر بدعوى أن الآخر هو سبب الضعف والتخلف الإقتصادي والإجتماعي ..
إن البداية الحقيقية للسلام هي بقبول الآخر بسلبياته و إيجابياته ، فإذا سادت الفكرة البسيطة و أصبحت ثقافة يعتنقها المجتمع أنتقلنا لمرحلة فهم الآخر ..
ثقافة قبول الآخر لا تعيش التحرر والمساواة وحقوق الإنسان بل هي دعوة ذهنية لتكافؤ الفرص تحصين البشرية من أمراض الصراعات العرقية والدينية ..
دعوة قبول الآخر ترتفع أهميتها بين الأنداد المتكافئين لأن في ذلك مصحلة مشتركة لهم وللبشرية ..
ثقافة قبول الآخر مرت سابقاً بنوعين من الصراعات، أولها كان صراع الطبقات ثم صراع الثقافات والأخير هو المحرك السياسي لمجمل سياسات الدول الكبرى ..
ممارسة ثقافة قبول الآخر تبدأ بالفرد نفسه حتى يجد نفسه قابلاً للآخر وبالتالي سيجد نفسه مقبولاً من الآخرين ..
إن الصراعات الثقافية والعرقية والقبلية و المذهبية والدينية لا ينتج عنها سوى تخلف زمني عن ركب التقدم العالمي ..
الإنتماء الثقافي يتوقف فاعليته على الزمان والمكان وعلى المستوى الإجتماعي والوعي الفكري في المجتمع الصغير والكبير ..
يتبلور الوجدان الثقافي وفق مدارك الإنسان ومراحل نموه وظروف نشأته وينتج عن ذلك ردود فعل تجاه الحياة والناس لا حصر لها ..
إن من القيم المستقرة في الدول العظمى حالياً أن المشاعر الدينية الجماعية لا تؤدي إلى ثورات أو حروب لأنها تعمّق فكرة المواطنة كبديل ..
إن العقبة التي تواجه الإنتماء الديني هو الإحساس بالتميز والتفاخر أي أنه أفضل من الآخر .. وعليه سيجد أتباع أي دين أو مذهب مفاهيم تأخذ شكل نصوص مقدسة تؤكد التمايز والإحساس بالزهو ومع تراكمها تتحول لتعصب حتى تأخذ مساراً عنيفاً ..
من منا أختار ديانته أو إنتمائه و في أي مرحلة عمرية .؟؟
مسيرة الحياة في سن التكوين تنطبع بالتلقين والمسلمات لا بالفحص والتمحيص ..
فالصراعات الغير دينية تذوب مع الرقي والثورة المعلوماتية وتبدأ بلقاء الآخر ثم قبوله فـ وفاق وتعاون باحثة عن إنتماء أقوى ..
يعتقد الأصوليون أن الإنتماء الديني يسبق الوطني وهذا الإعتقاد قد خلف حروباً ضارية كحرب يوغوسلافيا بين الكاثوليك والبروستنت مثلاً ..
إن غياب ثقافة قبول الآخر نشأت عن حروب لبنان و الصومال والسودان وكشمير وبورما و الأكراد ما بين العراق وتركياً ..
واليوم نشهد حروباً مماثلة لها بسبب غياب تلك الثقافة ..
إن ثقافة قبول الآخر وتعزيز الإنتماء الوطني هو من أنقذ المسلمين و المسيحيين من الإستعمار الإنجليزي في مصر ومن بعده الإحتلال الإسرائيلي ..
أخيراً
نحن مجتمع مصاب بداء عدم قبول الآخر
ذلك المرض العضال الذي يسري في جسد كل الأطراف المتصارعة ..
قبل نشأة علم الأركيولوجي كانت الكثير من الاسئلة التي تجول في خاطر الإنسان عن كيفية نشوء الحضارة .؟؟ بل كيف كانت البداية الإنسانية ..؟؟ ماهية الإنسان ..؟؟ نقطة الصفر كيف كانت .؟ كيف بدأت المدنية .؟؟ في أي اتجاه سارت أو كانت تسير .؟؟ ماهي العوامل الحاسمة التي أدت لظهور الحضارات .؟؟
كانت الكثير من الإجابات لا تجيء إلا بعدم المعرفة أو بالإجابات الخارقة للطبيعة التي نفهمها .. حتى نشأ علم يدرس الميثولوجي (علم الأساطير) جنباً إلى جنب مع علم الأنثروبولوجي (علم الإنسان) وعلم الأركيولوجي (علم الآثار) لتضع أمام العيان الإجابات الواقعية أو لنقل الإجابات التي تمتلك الدليل العيني والتحليل العلمي . وكل هذا حدث تتابعاً في العقود الثلاثة الأخيرة ..
لقد قسم العلماء التاريخ الإنساني على الأرض بأربعة عصور رئيسية هي:
1/ العصر الباليوليتي وقد إمتد نحو 90 ألف سنة ( 100،000 قبل الميلاد - 10،000 ق.م) وهو العصر المعروف بالحجري .
2/ العصر النيوليتي (8500 ق.م - 4500ق.م ) وهو العصر الذي أحس فيه الإنسان بإنفصاله الحقيقي عن عالم الحيوان ، وفي هذا العصر بدأ الإنسان بإستخدام أدوات بيئته الطبيعية لصالحه فبدأت تظهر تحولات جديدة لم تكن معروفة على الإطلاق قبل هذا العصر على النحو التالي:
- الخروج من الكهف والإستقرار على الأرض وبناء المستوطنات
- إكتشاف الزراعة
- تدجين الماشية
3/ العصر المديني وهو العصر الذي تكونت فيه المدن الأولى وظهرت بتنظيماتها وقوانينها وسياساتها وأديانها التي نعيش على ظلالها في عصرنا الحاضر . و تثبت الدلائل العلمية على نشوئها لأول مرة في بلاد الرافدين .
4/ عصر الثورة الصناعية وقد بدأت في القرن التاسع عشر الميلادي .
بإقتفاء أثر تلك العصور تشير الدلائل إلى أن العصر المديني قد ظهر لأول مرة في الشرق الأدني القديم في سومر ( بلاد الرافدين ) ثم أنتقلت إلى مصر و زحفت بعد ذلك إلى الهند .
لكن ماذا عن العصر النيوليتي الذي يُعد البداية الحقيقية للعصر الإنساني أو لنقل الثورة البارزة في التاريخ الإنساني ، فقد أثبتت الحفريات الأثرية إلى أن أولى التجمعات البشرية المستقلة في مستوطنات و قرى كانت في فلسطين و وادي الأردن و اولى تجارب الزراعة كانت ممتدة من حلب حتى سيناء ثم بعد ذلك أنتشرت الثورة النيوليتية نحو آسيا و جنوب أوروبا .
وهنا نستخلص القاعدة الأهم التي أكتشفها علم الأركيولوجيا والتي تنص على أن البؤرة الحضارية الأولى تشكلت وتكونت ثم أنتشرت من مركز واحد وهو ما يدحض النظرية القائلة بالتطور المتوازي .
إن الثورة النيوليتية نقلت الإنسان من عصره الحجري الذي اعتمد على الصيد والإلتقاط والتنقل إلى الإستقرار و الزراعة وتربية المواشي وهي اللبنة الأولى للحالة العصرية أو لنقل للثورة المدينية ..
لقد بدأ الناس التآلف في تجمعات تضم من 50 إلى 250 فرداً في تعداد رهيب وكبير مقارنة بفترة العصر الحجري الذي كان يضم في أفراده أعداداً لا تزيد عن العشرين .
إن الثورة النيوليتية تزامنت مع أمرٍ هام آخر ألا وهي الكتابة ، فقد كُتبت الحضارة الإنسانية لأول مرة في العصر النيوليتي في بلاد سومر فكانت رافداً مهما لقراءة تلك الحقبة بدءً بالرسومات وانتهاءً بالحروف والجمل المكتوبة بلغة ذلك العصر ..
لذا يستنتج من هذا كله تطور التواصل الإنساني بشكل أكثر تنظيماً عبر اللغات التي أخذت تتطور تدريجياً وهذا بالتأكيد يتزامن مع أحد أهم الاكتشافات التي غيرت شكل الحياة الإنسانية التي لا تقل أهمية عن إكتشاف الكهرباء في عصر الثورة الصناعية وذلك كان اكتشاف النار .
اكتشاف النار قسم العصر النيوليتي لفترتين زمنيتين ( عصر ما قبل الفخار ثم عصر الفخار ) .. وعصر الفخار هذا أبدع فيه الإنسان واخرج فيه أهم فنونه التشكيلية والبنائية التي مهدت لظهور العصر المديني كما ذكرنا سالفاً ولأول مرة في بلاد الرافدين ( سومر تحديداً ) تتابعت فيها الاكتشافات المنسوبة للحضارة السومرية ومنها إيجاد النظام العشري و تحديد محيط الدائرة وتقسم السنة والشهور والأيام وحجر الاساس لعلم الرياضيات ومبادئ الهندسة وبدأ عصر بناء المعابد ومراقبة الأفلاك وبدأت صياغة الشرائع المكتوبة و سن النظم والقوانين .
عند هذه النقطة تحديداً تبدأ كتب التاريخ الكلاسيكية كتابة الحضارة الإنسانية في بلاد الرافدين ومصر والهند ومنها لبلاد اليونان وقبرص والصين وكان ذلك قبل الميلاد بـ3500 سنة تقريباً ..
عنوان المقالة لا تعني أبداً أنني مُتشائم .. أو أن مشروعنا الفني الإنساني واجه فشلاً .. لا على الإطلاق !!
لقد كنت أكثر الناس نشوة و سعادة وأنا أشاهد ذلك الإقبال المُذهل و النجاح الباهر للحفلات الأربع التي أقامها نادي الطرب بالتعاون مع جمعية الثقافة والفنون و فرقة ألوان الموسيقية .. نعم وبكل بساطة تحول المشروع البسيط ( حلم المراهقة ) الذي كان يوماً بعنوان ( قمة جدة ) والذي أقمناه سنواتٍ طويلة عبر اجتهادات بسيطة بإدارة موقع و منتدى الأستاذ الراحل طلال مداح www.6lal.com تحول وأصبح ذا طابع رسمي عبر به صعوباتٍ كانت ، و لازال يحلم بهدم صعوباتٍ واكبت هذا الإنجاز ..
مُدهشٌ كل هذا الحب الذي لاقاه المشروع البسيط .. مميزٌ كل هذا الدعم من عُشاق الفن الجميل الأصيل ..
هنا عانق جمهور النادي المسرح جنباً إلى جنب مع القائمين عليه في لحظة تاريخية بالنسبة لنا
حينما قررنا تحويل حلم المراهقة كما أسلفت ، الحلم الذي يهدف لإنقاذ الفن من براثن التجارة به والعبث بموروثه نهضنا وحدنا و قررنا إقامة ما لم يستطع غيرنا فعله .. لم نكن نتصور قط أن هذا الحلم رغم مروره بمصاعب جمة أن يتحول إلى حقيقة وليس هذا فقط بل وفي الوقت الذي توقفت فيه تماماً إقامة الحفلات الموسيقية لكبار الفنانين وصغارهم ..
لازلت أذكر تلك الأيام الصعبة والتي وجدت سبيلها للشهرة عاماً بعد عام حتى كانت آخر ( قمة ) لم نستوعب فيها حتى اللحظة ذلك الكم الهائل من الحضور في إحدى قاعات الاحتفالات بمدينة جدة .. بل وبحضور أعلامٍ من الفن والإعلام ..
في آخر إحتفالات قمة جدة يظهر في الصورة بعضاً من القائمين عليها
لازلت اذكر عدم اعتراف أي جهة رسمية وحتى جمعية الثقافة والفنون بمدينة جدة بنشاطنا .. وأذكر تلك المبالغ المالية التي صرفناها لأجل إحياء ذلك الحلم ، و في المقابل لم نطلب فلساً من أيٍ من الحاضرين ..
نعم كنا زاهدين مصممين على تقديم الفن الأصيل بأي طريقة وعلى طبقٍ من حُب لكل عشاق الفن ..
واليوم وبالرغم من أننا لم نُقم سوى ٤ نشاطات في العام المنصرم .. إلا أننا عاقدين العزم على إكمال ما بدأناه بالرغم من كل الصعوبات التي أحاطت بنا وبحلمنا ومشروعنا من كلٌ فجٍ عميق .. فالفنون الجميلة لا تجد ذلك الإحترام والتقدير كما تجده الرياضة مثلاً ولا حتى الهرطقة !! دائماً ما ينكّل بها ويجد عاشقها و ساقيها كل الألم رغم ما تقدمه من فرح و بهجة ..
قد أعود يوماً لأكتب المزيد ..! لدي الكثير من الحكايا و القصص قد أفعل و قد لا أتمكن من ذلك ولكني على ثقة تامة أنه وكما حفرنا إسم موقع الأستاذ طلال مداح في قلوب مئات الألوف من البشر .. فتلك السهرات التي أقامها نادي الطرب جعلت من نفسها مكاناً في نفوس كل الحاضرين ..
يذهب
الكثير من النقاد الرياضيين والجماهير ومتابعي كرة القدم إلى أن المادة هي العصب الرئيسي
والحقيقي للعبة وبدونها لن تنهض أو تتطور أبداً ، ولا أختلف شخصياً عن هذا الرأي
ولكني أخالفه في الكثير من جزئياته .
بالسيولة
الضخمة تستطيع شراء أي لاعب تستهويه ولكنك لا تملك شراء التاريخ مثلاً أو
البطولات، فالإثنان هُما نتيجة لعمل وجهد وتخطيط قصير وطويل المدى ..
مع
تدفق سيولة مالية ضخمة من روسيا و أمريكا والخليج للأندية الإنجليزية وخصوصاً
شيلسي و مانشيستر سيتي وليفربول نتج عنها بطولات لا تتجاوز كف اليد الواحدة لكل
نادي ، رغم أن مصروفات الأندية مجتمعة تتجاوز المليار باوند في سنوات تزيد عن
العشر عند أحدهم ولم يكن العائد مُجزي مالياً على الأقل مما يضع الأندية في مفترق
طرق لو تخلت رؤوس الأموال عن غسل أموالها في تلك الأندية مما قد يهدم كل ما تم
بناءه وبشكل قد يكون مُفجع لعشاقه ولنا في أندية ليدز يونايتد و بورتسموث و
بلاكبيرن أمثلة و شواهد ..
فالإستثمار
الرياضي هو إستثمار يهدف إلى بناء قاعدة صلبة يرتكز عليها النادي لفترات طويلة من
بناء و تأهيل أكاديميات ذات جودة عالية والمحافظة على قدرة النادي على المنافسة
بتوازن مالي غير مرهق للميزانيات المالية و قادر على السير بالنادي للأمام دون أي
تراجع قد تخلفه مديونيات قد تجعل الحل الأمثل لملاكه هو بيعه لتاجر آخر راغب في
تدوير أمواله بشكل مُريب ..
وليس هذا فحسب بل إن القدرة المالية الهائلة عادة ما تقتل المنافسة الشريفة
بين الأندية وتقتل حماسة الدوري الذي يتلاعب فيه نادٍ دون الآخرين بوفرة أمواله
كما يفعل بايرن ميونخ الآن من إفراغ منافسيه من نجومهم سنة بعد آخرى وكما يفعل
برشلونة والريال في الدوري الإسباني ..
على الجانب الآخر تجربة نادي أرسنال مع الإستثمار الرياضي (المثالي) مالياً قد يكون جذاباً لأصحاب رؤوس الأموال ولكنه (فشل) في إقناع جماهير النادي و عشاقه على أنه إستثمار مثالي في ظل إبتعاد النادي عن تحقيق أي بطولات منذ آخر بطولة في عام 2005م .
نعم مقياس الجماهير هي البطولات ، ولا شك في ذلك ولكن أين هي كرة القدم من هذا كله ، هي الخاسر الأكبر خصوصاً على المدى البعيد ..
ولهذا استحدثت الويفا قوانين جديدة متعلقة بالأموال النظيفة للحد من الصرف الخيالي للعبة والذي يضرها على المدى البعيد وهذه القوانين تم تطبيقها لهذا العام وستأخذ حيز التفعيل الأمثل في الأعوام القادمة مع إصطدام الأندية بالمتطلبات الجديدة و أهمها هو الصرف بقدر الربح والذي يضمن عدم تدهور الحالة المالية للأندية الذي يترتب عليها عادة على اقل تقدير عدم تسديد رواتب اللاعبين والعاملين بالنادي .
أرجوا أن يحقق هذا التفاعل من قبل الويفا العدل لكرة القدم .. والعدل لتنمية اللاعبين والمواهب .. العدل للجماهير العاشقة التي تبحث عن إنصاف عشقها ..
فنون الجزيرة لغير المتابعين أو المهتمين هي شركة إنتاج فني وإعلامي ، وهي تعمل اليوم بإسم شركة بلاتينيوم ريكوردز المملوكة سابقا للأمير خالد بن فهد بن عبد العزيز و التي (يُقال) أنها وُهبت كاملة للفنان راشد الماجد عرفاناً لوفاءه للشركة في الوقت الذي احتكرت فيه شركة روتانا مُعظم الفنانين السعوديين ..
هذه الشركة تمتلك حصرا و قهرا صوت الفنان الراحل الأستاذ طلال مداح ..
ولا يحق لأي إذاعة او تلفزيون او موقع الكتروني بث أغنيات وروائع الأستاذ دون إذن مسبق من الشركة ..
من اللطيف أنها لا تضيق الخناق على المواقع الإلكترونية هذا مما ساهم في إنتشار روائع كانت تخبئها الأدراج سنوات طويلة ..
لكن المعيب أنها تقابل بإستهتار صارخ وفاء الأستاذ لمالكها (السابق) و جمهوره العاشق الذي لازال (رغما عن الإعتقاد بأن جماهيريته اليوم محصورة في جيلٍ بات ينقرض) ينتظرون بفارغ الصبر سنويا ما تنتجه الشركة ..
وهنا مربط الفرس
إنتاج الشركة من بعد رحيل الأستاذ لا يرقى أبدا لطموح المهتمين بالفنون الجميلة وبالأخص الطلاليين ..
بدايةً .. الشركة فقدت أرشيفها كاملا في حريق هائل أفقدها القدرة على طرح أي ألبوم أو أغنية تم إنتاجها في وقت سابق لرحيل الأستاذ .. وهي اليوم تمارس دور (الشحّاذ) اللامبالي و كما يُقال بالعامية (شين وقوي عين) ..
علاوة على ذلك فكل ما يُهدى لها أو تقوم بدفع ثمنه تطرحه مباشرة دون تنسيق او إهتمام بجودة ..
تارة تطرح ألبوم كوكتيل مكون من جلسات متفرقة و أغاني أستديو ..
وتارة تطرح ألبوماً سيء التسجيل او مسرّع ..
وتارة تطرح ألبوماً يحتوي على أغنيات بها أخطاء او أن الراحل نفسه سجلها مجاملة لبعض الأسماء ولم يرغب في نزولها الى الاسواق .. وتارة أخرى تطرح ألبوماً مكوناً من بروفات للأستاذ طلال ..
بالتالي هم يسيئون للأستاذ .. ( ألا يا أهل الهوى كيف المحبة تهون )
الرجل الذي لولاه لما كانت فنون الجزيرة شركة لها شأن في عالم الإنتاج الفني ..
إضافة لكل ما أوردته فهي لازالت متعنتة في تسويقها للألبومات بالشكل اللائق ولازالت تحرم الإذاعات و القنوات الفضائية من بث إرث الراحل والذي يشكل أهم إرث موسيقي للأغنية السعودية في عصرها الحديث ..
أستاذنا طلال
لا جديد في الحياة وإنت بعيد
لا جديد لا أمل لا يوم عيد ..
تبا لك يا فنون الجزيرة .. تباً لك من شركة ناكرة للجميل ..
في هذه الصفحة سأكتب في خلاصة أبرز ما جاء في كتاب ملف الهبل العربي للأديب الفلسطيني حسين لوباني الداموني راجياً أن يكون الملخص مُفيداً وهو لا يغني بأي حال من الاحوال عن قراءة وإقتناء الكتاب ..
مقدمة الكتاب:
يبدأ الكاتب في إبراز أهم عيوب المجتمعات العربية من وجهة نظره والتي تتمثل في إعتقادنا أننا على صواب وبأن غيرنا كائن من كان على خطأ .. ومن منظور ديني فنحن أهل الله وغيرنا ( كفرة فجرة ) .. وهذا ما ينتج عنه تسخير النصوص الدينية لتخدم مآربهم واهدافهم رغم تعدد كتب التفسير و خلافية غالبية النصوص عند علماء الدين وهذا ما نتج عنه فرق دينية متصارعة وهو أبرز مظاهر الهبل ..
كل فرقة دينية تدعي أنها الناجية و غيرها ضالة أو كافرة .. ولكل فرقة أتباع يصفقون ويهزجن لها في محاولة لاستقطاب أكبر عدد من الجماهير الجاهلة حتى بتفاصيل الإختلاف .. وبالتالي لكل فرقة شيوخها وشيخ مشايخها يبجله الأتباع و يعلون مقامه إلى درجة قد تصل لحد القداسة ..
ثم يتطرق الكاتب في مقدمته لأمراضنا الاجتماعية التي تتلخص في الإدعاء ، التبجح ، النفاق ، الكذب والعنتريات .. وما يقوم به المجتمع بتسويق الجهل والتحلف والتحجر والتزمت على أنها عقل و علم ومعرفة وحضارة .. بل وفرض ذلك بقوة السيف و المتفجرات والعبوات الناسفة متناسين أن هنالك أساليب حضارية أجدى وأكثر نفعاً ..
ثم يختم الكاتب مقدمته بتقارير اليونيسكو للثقافة والتي أحصت عدد الاميين في العالم العربي لم يتجاوز الـسبعين مليوناً منهم 38 مليون إمرأة و 12 مليون طفل ( تقريباً ) .. و بدلا من محاربة الأمية والجهل في عالمنا العربي فإننا نتناحر ونتقاتل فيما بيننا ..
ويختم المقدمة بجملة جميلة جداً حيث يقول: أية شعوبٍ تلك التي أستمرأت العيش ضمن حدودٍ مصطنعة ومن صناعة المستعمر المحتل ..
فمن يعي أبعاد تلك الجملة ..؟؟ مقدمة الكتاب تميزت بدخولها في صلب الموضوع على طريقة جلد الذات لذا أعتبرها أحد أهم المقدمات التي قرأتها شخصياً مقارنة بمثيلاتها من الكتب ..
***
الفصل الأول:
يبدأ الاديب الجميل فصله الأول ببعض الجمل المستهلكة وأظنه وجدَ أن أهميتها تفوق تكرارها .. فهو يقول: أمة إقرأ لا تقرأ .. ومن يقرأ هم قلة .. وإذا قرأ لا يستوعب .. وإذا أستوعب صار غريباً في قومه ..
فمع التقدم العلمي في الفلك والرياضيات و الفيزياء لازلنا لا نختلف في تحديد اليوم الأول من رمضان وآخر يومٍ من كل عام قمري .. في حين أن العلم وصل لمرحلة تحديد موعد كسوفٍ أو خسوف بالساعة والدقيقة والثانية .. عارٌ علينا ألا نعرف والجميع من حولنا يعرفون ..
الأمة في مواجهة عدو علمي عصري مدجج بثقافة العصر مستوعباً التقنيات والتكنولوجيا الحضارية ونحن لا شيء من هذا كله .. لا يزال منا من يغوص في الجهل مشنغلاً بأسئلة الختان والحجاب واللحية وفوائد الحبة السوداء والتداوي بأبوال الأبل .. نستهلك كل ما يجود به الغرب من إنتاج علمي وطبي وغيرها ثم نتهمهم بالكفر والإلحاد والإنهيار الخلقي ..
علينا أن نلتفت إلى نظافة عقولنا وتنزيه ما نعتقد من الشوائب التي يلصقها فينا مجموعة الجهلة و المتخلفين ..
ثم أورد الكاتب مجموعة من الأحاديث التي يرى أنها لا تصح قولاً عن رسول الله رغم ورودها في الصحاح:
ثم يورد الكاتب في كتابه بعضاً مما سماه هبلاً سابقاً لا زال يلاحق الناس اليوم كفكرة أن الأرض ثابتة لا تدور وأنها مسطحة .. و اكذوبة الجاذبية و إبطال نظريات نيوتن و غاليليو و أينشتاين و داروين رغم ثبوتها بالحجة والبراهين و التجربة والقياس .. ثم يضرب مثالاً بما واجهه الملك عبد العزيز (مؤسس المملكة العربية السعودية) من المتشددين الذي حرموا الكهرباء و الطائرات و التصوير و الشرطة و الفاكس و الراديو وغيرها ..
الصفحة الأخيرة من الفصل الأول
***
الفصل الثاني:
جاء الكاتب في هذا الفصل على ذكر الجنس .. حقيقة وجدت صعوبة في تلخيصه لذا سأكتب بعضاً مما جاء ذكره على شكل نقاط تشكل الهدف من الفصل ..
يعتقد الجهلة أنه لا خيار للنجاة وتحقيق العدل إلا بعقيدتهم التي تجيب على كل الأسئلة ..
هنالك حجر كامل للعقل ومنع تام لاستخدامه وتخدير للعواطف وقتلٌ متعمد لمشاعر سامية ونبيلة ..
إن الكثير من الأفراد يمارسون كل يومٍ منكراً وسوءً في سلوكياتهم ولا يحقرون ما يفعلون وينجحون بالظهور بمظهر الأتقياء ..
لقد تعود الناس على استقباح التصريح في كلامهم بذكر أفعالٍ يفعلونها ولا يستقبحون فعلها ..
ثم عدّد الكاتب مجموعة من الأمثلة ومنها الجنس وهو من الحاجات الرئيسية كحاجة الإنسان للطعام فلماذا يكون ذكره قبيحاً وخروجاً عن الفطرة .. وذكر الكاتب جملة من الأحاديث و أبياتاً من الشعر جاءت بذكر الجنس بألفاظٍ يستقبحها المجتمع اليوم .. وجاء على ذكر إرضاع الكبير مورداً قصة زوجة أي حذيفة ومولا سالم .. وضرب الكاتب في الفصل الثاني أمثلة على ثلاثة رخص شرعية بين علاقة الرجل والمرأة وهي (الزواج بـ أربعة ، التسرّي بالجواري و وزواج المتعة)
وأضاف:
كل شيء لم يوجد مُحرماً صراحة فهو مباح مطلقاً وليس في استقباح الناس قياس ..
ولأن الجنس همٌ اكبر لدى الفرد ولأنه البكر أفضل من الثيّب والصغيرة أفضل من الكبيرة فقد يقترن الشيخ بفتاة تصغره بأعوامٍ كثيرة ..
ثم ينتقد الكاتب الإمام الغزالي حول موعظته بآداب الجماع كونها مخصصة للرجال دون مواعظ للمرأة كون دورها هو استقبال هجومات الرجل ..
ثم ضرب أمثلة عديدة عن كتب التراث وما فيها من ذكر الجنس دون تكلّف و ببساطة ومنها مراجع هامة كـ إحياء علوم الدين للغزالي و رسائل الجاحظ ..
ثم يختم الفصل الثاني بـ:
ألم ندرك بعد أن الجنس أمرٌ يجب أن نكتبه لشبابنا ونعلمهم إياه خيرٌ من اتجاههم لأفلام إباحية ..
الحياء المسرف ليس إلا وضعٌ نفسي نشأة ونمى نتيجة أوهام و تقاليد وكأنها دين نتمسك به ..
الحياء المسرف دفع رسائل الجنس للحضور في مراحيض الرجال دون النساء ..
الفصل الثالث: في هذا الفصل تطرق الكاتب لإنتاج العُربان فيقول: إن الذين لا يقرأون التاريخ ولا يتعلمون هم انسٌ فقدوا الإحساس بالحياة .. فمن المستحيل أن تنمو الأمة بشكل بيعي وهي محاصرة بالإرهاب السياسي والعقائدي والديني و الاقتصادي والفكري الذي يطوقها .. مع نمو المزايدة الفكرية والعقائدية بين الناس يصعب على المرء أن يستوعب ما يدور حوله .. لقد أصبحت الأمة محاصرة بإرهاب الأصوليين الذين استعادوا قواهم بسبب الأزمات السياسية .. أصبحوا يسيّسون الدين و يديّنون السياسة مما فرّق الأمة لشيّع و فرق عديدة كل منهم يعتصم بآياتٍ وأحاديث .. إن المنغلق ينظر إلى غيره من خلال هويته الدينية والعقائدية أو القومية اللغوية او الحضارية الثقافية ويحكم عليهم ..
يسأل الكاتب: من يحرك جموع الناس اليوم ؟ لقد اختبأت النخب الفكرية والثقافية من مراجعة عواصف التطرف الهوجاء .. بل إن جميع الفتن منذ عصر صدر الإسلام قامت بإسم الإسلام مع إنها خلافات سياسية اتخذت الدين شعاراً لها .. نحن اليوم متلبسون بالفوضى و الاضطراب والجهل عندما حاصرنا أنفسنا بمرجعية واحدة جامدة فصرنا نخطئ من أجل خدمتها ..
ثم يأخذنا لتقرير اليونيسكو لعام 1998م والتي جاء على ذكر الإنتاج التقني والتكنولوجي :
من ثم يستعرض شح الإنتاج الأدبي من ذات التقرير:
***
الفصل الرابع:
في هذا الفصل وهو أحد أهم فصول الكتاب يتحدث الكاتب في جزأين عن الجهل والشعوذة والخرافات ومن ثم التشدد والتزمت الديني ..
يبدأ الكاتب بقوله:
إن التخلف لا هوية له ولا دين والحديث عن مريح لجماعة العقلاء و مفزع لساكني الظلمة والهاربين من درب التطور .. فهنالك عداء بين العقل الشرقي و العلوم التطبيقية فرجل الدين التلفزيوني يشتم التلفزيون ويصفه بجهاز لعين ..
ببساطة يمكن الاستنتاج بسهولة أن الحاخام عندما يتحول إلى سمسار فإن القضية تدخل في باب النصب والاحتيال ..
إن ما يدعو للدهشة أنه في عصر التكنولوجيا فإن بركة رجل دين تكاد تلقي العقل في أسواق المال وهي لا تقوم إلا على الأرقام ..
إن صور التخلف تتجسد في الأقوال والأفعال والسلوكيات قديماً و حديثاً فهي ليست وقفاً على أمة دون سائر الأمم ..
يقول الداموني: قال لي كاتب أن هنالك هجوماً على البخاري لإسقاطه فقلت له هل قرأت خزعبلات التلمود المدراشي ؟ فقال لا ..
فأخبرته عن روايات كعب الاحبار في البخاري واحدة تلو الأخرى، كحديث رجم القردة لقردة أنثى زنت (باب مناقب الأنصار) ..
هو يرى أن التاريخ يعيد نفسه كاعتداء الحنابلة على الشوافع بما يُعرف عنها بحوادث بغداد عان 323هـ ..
بالطبع كلٌ يكفر الآخر ويعتبر نفسه ناجياً وكأن روح التشرذم والانقسام مرض لا ينفكون عنه منذ قديم الزمن ..
ثم ينطلق الأديب الداموني للحديث عن الخلافات المذهبية الجذرية منها والفرعية في تفسير القرآن والحديث وعن دموية تلك الخلافات ..
ثم يضرب الأمثلة في أئمة مشهورين كالشعراوي حيث يقول:
لشيخ المفسرين التلفازي الشهير محمد متولي الشعراوي قولا عجيباً في تقدم العرب التكنولوجي يتلخص أن الله منحنا الأموال لنأخذ إنتاج الغرب ونستهلكه !!
ويتابع الشعراوي قوله: بحمد الله أن سخّر للإسلام بني الروم لخدمتهم بتقدمهم التكنولوجي في شتى المجالات ..!!
يكمل الكاتب:
ومن الخرافات قول بن باز مفتى السعودية أن الأرض ثابته لا تدور وأن من يقول غير ذلك ضالٌ مضل يستتاب وإلا قُتل مرتداً ..
ويكمل:
إن زغلول النجار يعمل في أفضل تجارة وأكثرها أماناً وهي تجارة الإعجاز العلمي واصفاً إياه بنجوم العصر .. فـ زغلول يعتمد ببساطة على مراقبة ما ينجزه الغرب من تقدم علمي ثم يخرج آية أو حديثاً ليؤكد أنهم أغبياء وأننا نعلم منذ قرون !!
ثم أنتقل الكاتب للحديث عن إباحة شراء الإماء والجواري من ملك اليمين فهل ورد تحديد لعدد كما هو عدد الزوجات ..؟؟
الجواب لا لذا عددهم عند الاغنياء يرتفع كثيراً
فهارون الرشيد مثلا ً كان لديه 2000 والمأمون 200 المتوكل 4000 والمعتصم 8000
ثم أنتقل الكاتب لبعض الإحصائيات التي تبرز الهبل العربي (التخلف) على النحو التالي:
جرائم قتل العار في الاردن مثلاً تسجل أرقاماً ما بين 25 إلى 28 امرأه تُقتل سنوياً غسلاً للعار .. ولكن هل الرقم حقيقي أم أن الرقم الحقيقي يزيد عن ذلك ..
وفي جانب نصيب الفرد العربي من التعليم فهو لا يتجاوز 340 دولار بينما الإسرائيلي يحصل على ما نصيبه 2500 دولار سنوياً ..
أما في جانب الحريات العامة فترتيب الدول العربية لم يتضمن الخمسين مرتبة الأولى في العالم ..
لبنان في المرتبة 56
البحرين في المرتبة 67
الكويت 78
المغرب 89
الأردن 95
مصر 101
اليمن 103
السودان 105
السعودية 125
ويُضيف في هذا الجانب: دون حرية لا يستطيع المجتمع أن يتقدم لأنه بجانب البحث العلمي يتكئ على حرية المجتمع تفهماً وقبولاً لنتائجه ..
ثم يختم الجزء الأول من الفصل الرابع بقوله: إن المقصود من استعراض نصوص التخلف هو إثارة إحساس الخجل من أنفسنا وإنسانيتنا لتحكيم العقل واللحاق بمسيرة العلم ..
في الجزء الثاني والأخير من الفصل الأخير لكتاب ملف الهبل العربي يصب الكاتب جام غضبه على الخرافات الأساطير والشعوذة والدجل فيقول:
رغم حضورنا في زمن الإنترنت والاستنساخ والعولمة بكافة أوجهها فإن الكثيرين من العُربان لا يزالون يعتقدون بالأساطير ..
يجدر بنا في هذا الزمن الوثوق بالعلم والدين الصحيح لا اللجوء لإعلانات العيادات الروحية التي تدعي علاجاً من الجن او الضعف الجنسي أو العشق ..
حبل المعتقدات الخرافية الفاسدة من شعوذة وسحر وحسد له بداية وليس له نهاية وتمتد جذوره منذ القدم ..
في القرن الواحد والعشرين لازلنا نسعة خلف التخلف بدليل انتشار الخرافات بين المتعلمين كدق الخشب والخرزة الزرقاء ورفة العين و غيرها الكثير على نفس النسق .. بل ولازلنا كمتعلمين لا ندرك الأمراض النفسية أو العضوية كالاكتئاب و الجاثوم والصرع وجهلنا بالتفسير يقودنا مباشرة نحو الخرافة ..
ولازال منا من يتردد على شيوخ تعويذات ومحضري الأرواح و المنجمين ومطاردي العفاريت ونصدق قصصا وألعاب خفة تسترزق من الجهل ..
ولازال البعض يعتقد بحدوث معجزاتٍ تخرق سنن الطبيعة بالرغم من إيمانهم بأن آخر المعجزات للرسول محمد كان القرآن ولا شيء بعده ..
ثم ينتقل الكاتب لمسائل أخرى كالحجاب والختان واللحية وما تفضي إليها من نزاعات وخلافات حادة ..
يقول: لقد باتت قضية الحجاب من أكثر القضايا إلحاحاً لدرجة أنهم نسو قضية فلسطين مثلاً أو الفقر والجوح و غيرها .. وألِّفت آلاف الكتب حول فرضية الحجاب الذي يختلف شكله وطوله و لونه من بلد لبلد وفتاة لأخرى وشيخ لآخر ..
ويزيد: إن الأصولية الإسلامية تجرنا إلى الحديث عن أمورٍ انتهي عمرها الافتراضي منذ زمن إلا في عقولهم المريضة ..
ثم يختم قضية الحجاب بقوله: وهم يتفننوا في فرض تلك المظاهر بشتى الوسائل من الترغيب والترهيب بدلا عن الحكمة والموعظة الحسة ..
وفي مسألة الختان يقول:
أعجب من قول الفقهاء أن ختان المرأة يعدل شهوتها وأن الشيطان يختبئ في غلفة الذكر والأنثى الغير مختونين .. ولقد أكدت دراسات علمية حديثة أنه لا علاقة بين الختان والعفة وقد انحسر ختان الإناث رغم قول الشافعي والطبري بوجوبه ..
ويزيد في هذا الجانب قولاً جميلاً:
كيف أسمح لنفسي أن أتورط في وهمٍ أن الخالق يمكن أن يبدي اهتماما بقطعة جلد تتدلى مني وهو خالقها ..
في ختام كتابه يقول الأديب حسين علي الداموني:
سنظل نتخبط كالمواشي يقودنا انتهازيين و استغلاليين يسعون لتحقيق أهداف دنيوية يجهلها القطيع بدون علم ..
كل الأماني أن يكون جهدي مُفيداً ونافعاً .. و قد أبرزت أهم ما جاء به هذا الكتاب وهو أحد أهم مؤلفات الأديب الفلسطيني المعاصر حسين علي لوباني الداموني ..
هذا هو النص الكامل لمحاضرة الرجولة عماد الخلق الفاضل
للأديب المكّي حمزة شحاتة، والتي ألقاها امام حشدٍ واسع بمقرّ جمعية الاسعاف
الخيرية بمكة ليلة الخميس 9 منفبراير عام 1940م. والرجولة لشحاتة، محاضرة في الفلسفة والأخلاق والسياسة
والاجتماعوأصل الأفكار .. ناهيك
عن كونها نصتأسيسي للعقل المحلي
الحديث.
تنويه
كل الشكر والتقدير للأستاذ المدوّن والمخرج السعودي محمود صباغ والذي أفرد في مدونته هذه المحاضرة فكان له السبق والتقدير والإحترام
كما أنه أنتج وأخرج فلما وثائقياً عن الراحل ومحاضرته الشهيرة عبر قناة محليون في اليوتيوب بعنوان
مما جرى في بطحاء مكة
الرجولة عماد الخلق الفاضل
حمزة شحاتة
سادتي -إخواني
عندما يكون الإقدام على المخاطر ضرورة، لا يعد شجاعة،
ومعنى هذا أن النسبية تدخل في حساب الحقائق الفكرية والضرورة هي التي تدفعني اليوم
أن أقف منكم هذا الموقف على إيماني بضآلة شأني فيميزان الفهم العام… فما كان يسعني أن أرد لجمعيتكم المخلصة
طلبين في عام واحد.
وللضرورة في حساب الحياة أبعد الأثر. ونعتقد أن التطور ما
لعب دوره الخطير في تكميلأسباب الحياة
الاجتماعية إلا على أساس الضرورة الحافزة.
إن حديثي في الواقع ولا أسميه محاضرة، عن الخلق الكامل
كعماد للرجولة، لا عنالضرورة كأساس للخلق
الفاضل، أو كعماد للرجولة، لكني اخترت أن أمهد لهذا الحديث هذاالتمهيد، وأن أزحزح العنوان المقترح عن
وضعه قليلاً فيكون “الرجولة عماد الخلقالفاضل” لا الكامل
فما يزال الكمال نشدة الحياة المطولة، ووهمها الذي تنساق أبداًفي طلابه، وما دامت مراحل الحياة تمتد
ولا تنتهي. وقوافل الأحياء تسير ما يثقِّلخطاها الزمن الجاهد. وما دام التغير الدائم دأب الحياة
وسبيل ما فيها، فهل نقول إنشيئاً كمل، قبل أن
يوفى على غايته، ويبلغ تمامه؟
وأنا لست أعرف معنى لهذه الحرية، بيد أني ألفت أن أطلق
لفكري عنانه فهذا عندي أخلقبأن يجعلني أكثر
شعوراً بحياتي، وفهماً لها، وأنا طامع بعد في أن تحمدوا لي نتائجهذه الحرية إن شاء الله.
لا تكون النظرة إلى حقائق الحياة والفكر خالصة، إلا من
أناس يرون أنفسهم فوق قيودهاوقوالبها، وهؤلاء
يدعون بالمجانين تارة، وبالفلاسفة وقادة الفكر تارة، لأن حظالصفات والمبادئ والنزعات يرتبط دائماً بحظ الداعين إليها،
والمتصفين بها، منالنجاح والفشل.
هذه حقيقة فطن لها الناس من القدم، فقالوا كثيراً ما معناه:
الناس من يلق خيراً قائلون له .. ما يشتهي ولأم المخطئ
الهبل
ليس هذا حظ الأحياء فحسب، بل حظ المبادئ والأغاني
والنظريات والفضائل، وحظ موقفيبينكم الليلة أيضاً.
وأنا أريد التجريد والتعرية كباحث لا كمحاضر، فإني لو قصرت
كلامي على الرجولة، أوعلى الخلق الفاضل،
خشيت أن يتحول حديثي إلى موعظة لا تعدو أن تكون تمدحاً حماسياًبالفضائل، دون تحليلها، وردها إلى
مصادرها وتحديد قيمها، ومعاييرها، وأثرها في صميمالحياة وعلاقتها بالنفوس.
والتجريد مبدأ قديم لي أو هو مرضي الذي لا أشفى منه. عرفني
به من عرفوا طريقتي فيالحياة ومن قرأوا
نظراتي القديمة في الخير والشر. في الفضائل والرذائل، وفي الحب، وفي الشعر.
فإذا ظن ظان أن فيما أقوله الليلة خلطاً أو إطلاقاً أو
شذوذاً، فإنما يكون هذا الظنمعقولاً لا أضيق به،
فهو عندي شبيه بالنظرة إلى مجهول لم يتكشف، لا إلى مجهول أخذسبيله في التكشف والوضوح.
*
* *
كان الحديث عن المسائل الجنسية، وعلاقتها بحياة الإنسان
الفكرية، وأخلاقه، وميوله، وعقده العصبية ووجدانه؛ أول ما فوجئ به الناس مساً
لمواطن العفة والتقديس في نفوسهموعقائدهم الفكرية،
حتى نالت المسألة الجنسية نصيبها من الفهم والتقدير، فإذاتناولها اليوم باحث بالتوليد والتكرار والتمحيص والاكتشاف،
لم يلق العنت الذي لقيهالباحث الأول.
وأنا لا أزعم لكم أني الباحث الأول في الفضائل والرذائل،
ولكني أظن أني أول منيتناول البحث فيها
بهذه الطريقة التجريدية وبهذا الأسلوب العاري.
والتجريد في مرحلته الأولى، رد للمسائل إلى أصولها
المفروضة، وإلى أساساتهاالعارية. فهو يمس
العقائد الفكرية -لا شك- ويهدم منها شيئاً، ليقيم شيئاً محله.
وهو فرض ينازل حقيقة تحجر بها الاصطلاح، وهم ينازل
اعتقاداً، وشك تعارض به معرفة.
وما زالت النفوس أضعف استعداداً لقبول المفاجآت التي تحاول
أن تنتزع من معتقداتهاومشارعها، شيئاً له
قيمته وقداسته، وله صلابته العنيدة.
وشأن الجديد في هذه السبيل، أن يكون رمز الإقلاق والبعثرة،
وما يهون على النفوسوالأفكار أن تنزل عن
قوانينها الأدبية، وتقاليدها وعقائدها، إلا مكرهة.
والجديد متى استطاع أن يقيم الشك في نفس، كان قد غزاها
الغزوة الأولى ولكن هذا ليسسهلاً كما يظن.
فقد يكون هدم قانوني رياضي، أو هدم قاعدة علمية، أهون
كثيراً من مس عقيدة في رجل، أو في فضيلة، بل هو هكذا.
قلب أينشتين -العالم الألماني- بعض القواعد العلمية
والرياضية رأساً على عقب، فماعبأ به الناس، ولا
تنكروا له. ولعله لو اقترح تحويل كنيسة مهملة إلى ملعب رياضي، لمس بهذا الاقتراح
أطراف مشكلة قد تجر إلى الاعتداء عليه.
إذاً نحن نعرف الخطورة في اعتراض عرف متصلب، حتى في أهون
المسائل النظرية المتعلقةبعقائد الفكر
والنفوس، فلماذا نجازف؟..
إن المجازفة الليلة ضرورة، ومن الخير أن نستفيد من قوانين
الضرورات المرتجلة، لنكونباحثين مجازفين.
فالمجازفة في تاريخ نشأة الحياة، وفي تاريخ تطوراتها، قادت روادهاإلى القمم الشامخة وأعانت على كشف مساتير
الوجود والفكر.
والفكر المؤمن بنظرته إلى شيء نظرة خاصة، لا يسعه إلا أن
يؤدي الأمانة.
ونحن لا نحلم بالقمم الشامخة، ولكننا نرجو أن نصحح مقياساً
من مقاييسنا الفكرية، ولو بالشك فيه، لأن الركود في تاريخ أمة تتطلع إلى ما وراء
حدودها الجامدة، شر منالخطأ.
لهذا ستكون نظرتنا إلى الفضائل -على أن أساسها التجريد
القاسي- نظرة من يريد أنينطلق بها من حدودها
الضيقة المتصلبة، إلى حدود رحيبة من الشك والوسواس، خاضعاًلسعة إدراكه لأطرافها، وخفاياها ورموزها، وعلاقتها
بأشباهها، وهو لا يفعل بها هذاليضعفها، بل ليبلغ
بها أبعد حدود القوة والاحتمال.
والناس يمتحنون قواهم الجسدية، بألوان عنيفة من الرياضة،
والكد المصطنع، لتمرينهاعلى احتمال الأعباء،
ولشحذ طاقتها، ولتقوية مراكز الإرادة والسلطان فيها. على أنالرياضة في ذاتها -كمشقة- نصب للجسم، وانتهاك صريح لحرمة
نشاطه المذخور.
وسأكون الليلة أكثر حرية. وإن كانت أفكاري ونظراتي، ستفقد
الترابط والانسجام، لضيقالمجال الذي يشعر به
باحث أو محدث، يجيء في غبار السادة المجلين قبله. فهنا تنتصبالموازين الدقيقة، وتضيق دائرة التسامح والتغاضي. فقد عرفت
الأذهان أنماطاً عالية
من التفكير وأنماطاً قوية من أساليب القول المجود، كونت
ذوقاً أرستقراطياً، لايرضيه من الجمال إلا
أن يكون فتنة تهز المشاعر، ولا من القول إلا أن يجيء عبقرية.
وهذا لون من ألوان الإدمان الأدبي، بل هو عندي الليلة شر
ألوانه، فإن الأذواق متىألفت أن تصيب لذتها
من جمال محدود، تاقت بعد ألفته، واستصفاء معانيه. إلى ما يكمنوراء حدوده الظاهرة، وإلى ما يقودها
بعيداً عن هذه الحدود، على وفاق نصيبها، من سعةالتخيل، وجشع الإحساس، والمقدرة على تصور الصور واستحضارها
وانطلاق الميول.
وإدمان النظرة إلى صورة جميلة، يفقدها شيئاً من تأثيرها
القوي كلما تجدد إليهاالنظر المشغوف،
وارتوى منها الحس المنهوم، حتى تفقد مقدرتها على التأثير والأداء.
وإنك لتعجب بالمنظر يفتنك، ويلقاك بألف معنى. أول ما تلقاه
فما تزال نفسك دائبة فيتحليل معانيه
وإذابتها، حتى تنتهي بها إلى الإصغاء والإفلاس، وتكون قد حولتها إلىدمك شيئاً منه، فما تلبث أن تتصرف عن
هيكلها العاري، وقد تركته مادة جامدة، وأضفتإلى قانون الجمال وفهمه، والإحساس به في نفسك، مادة جديدة،
لا يبلغ بها الرضا عندك،
إلا أن يضمن لك المنظر الجديد، معنى جديداً، يزيد عما تعرف.
ولبعض النفوس والأذواق قوة النار واستشراؤها، شأنها في
الإذابة شأن النار، مايستقيم فيها شيء إلا
إن كان في معناه معنى الصخر والحديد وهو بعد ذاهب لا يدوم، وذائب ما يبقى!
فإذا خفت الليلة، فإنما أخشى خطراً عرفت مشابهه في نفسي،
فإن كتبت لي السلامة -ولاأتوقعها- فإنما تكون
أثر الحظ، وخارقة من خوارقه المعروفة.
ولست أرجو أن أصيب النجاح في مثل هذه السبيل الجانحة،
لكنها الضرورة، وما كنتلولاها أوثر أن أتكشف
لكم عن سرائر ودخائل ضئيلة تخيب أملكم فيَّ، وأملي في نفسي.
ولقد يواجه المرء خطراً لا معدى له عن مواجهته، فتكتب له
النجاة. فيقول الخليون: إنه شجاع، فإن أسلم
روحه قالوا إنه الجهل والتهور واختلال القياس، أو ذهبوا يعددونمنادح الخلاص التي يرون أنه كان خليقاً
بأن يتفطن لها.
ولا شك عندي في أن سراوة مظهري ستجني عليَّ كثيراً، وتردد
اسمي بين أسماء إخوانيالأدباء، يوهمكم
فيَّ، ويعدكم بما أعجز عن تحقيقه. ورب قائل يقول: أليس هذا عصرالانتهاز والإعلان؟ فأقول له: بلى، ولكنه
عصر المنطق والوزن والتقدير والمقارنةأيضاً!؟ وإنما يقاس
النجاح فيه، بما تعد به الطاقة المتخيلة، والإمكان المفروض.
والناس إن أدهشهم الرجل العادي، لأنه لعب على الحبل
بمهارة، لم يقنعوا من البهلوانالشهير إلا بما يدخل
في حدود السحر من الأفعال الخارقة.
ونحن نفرح بالطفل يهدينا ما لا يساوي في ميزان المادة
شيئاً، أضعاف ما نفرح بهديةغني تساوي العشرات؛
ذاك أنّا ننظر من وراء القيم والمعايير، إلى الطاقة والإمكان، وإلى بواعث الشعور
ونسبتها؛ فالكبير إن أهدى فسبيل مثله أن يفعل، أما الطفل فسبيلهالأثرة والشح، فهو إن أهدى شيئاً فإنما
يهديه من نفسه، وإنما يعبر بهذه الدلالة عنعاطفة ساذجة في حرارة اندفاعها، وصدق انفعالها، غير ناظر
إلى الربح والبذل.
والكبير يقدر الغاية، ويرسم الوسيلة إليها، أو يؤدي الدين،
أو يفتتح السبيل،
وميزانه في ذلك ميزان الحساب الدقيق، إما في اعتبارات
المادة، أو في اعتباراتالشعور بمطالب القلب
والفكر، ونوازع الأريحية والوجدان فشأني الليلة أمامكم، هذاالشأن. وما أود أن تكون خاتمتي بينكم موتاً، بل انتحاراً.
فالانتحار -هنا علىالأقل- أضمن لتحقيق
معنى الاختيار من الاستسلام للموت. ولعله أدل عندي على الحيوية، وتركز الإدارة،
ووضوح الفكرة، وقديماً قالت العرب “بيدي لا بيد عمرو” و:
“تأخرت
أستبقي الحياة، فلم أجد .. لنفسي حياة، غير أن أتقدما”
*
* *
ليس من السهل أن يتكهن باحث بالعهد الذي عرف فيه الإنسان
الخير والشر، وإن كانتمعرفتهما -على
الأرجح- متصلة بحياته الفِطرية الأولى، أو منتزعة من صميمها.
وإذا كان صعباً أن يحدد التاريخ الذي عرف فيه الإنسان،
الزراعة وزاولها، والتاريخالذي اكتشف فيه
النار، وعرف صنع السلاح، وإقامة الأكواخ، فإن من أصعب الصعاب، أنيكتشف اليوم باحث، تطور نفسيات الإنسان
الأول، وتطور مدركاته الفكرية.
وقد يمكن ترتيب الأطوار الكبرى التي اجتازها الإنسان
القديم بشيءٍ من الفرق الدقيق، وبشيء من الاستقراء، ولكن التعرض لسلسلة المراحل
التي تخللت هذه الأطوار الكبرى، ليس هيناً.
وإن كانت دراسة أحوال الجماعات الهمجية اليوم، تشير إلى
أحوال الإنسان القديم، وتحلبعض الرموز، فإن ما
لا شبهة فيه أن حياة أية جماعة همجية في هذا العصر الراهن، تختلف كثيراً عن تاريخ
همجية الإنسان الأول ولا يمكن أن تعطي صوراً تقريبية لها.
فانتشار الجماعات الأولى على سطح الكرة الأرضية، يعد وثبة
مجهولة لا يمكن أن يهتديفيها فكر الباحث أو
المفترض إلى نتيجة، يطمئن إليها العقل. وتحديد المجتمع الأول، للجماعة الأولى، لا
يقوم إلا على ترجيحات ذهنية ضعيفة، يسهل نقضها.
فآثار الإنسان والحيوان المتحجرة، تكتشف في نواحٍ كثيرة
متباعدة من الأرض، لا تصلهاببعضها وسائل النقل
السريعة في هذا العصر إلا بصعوبة.
والذي دفع الجماعات البشرية الأولى إلى التفرق والتباعد،
لا يمكن أن يتعدى الدوافعالتي تنشأ عن الحاجة
إلى الطعام، أو الشعور بعدم ملاءمة البيئة؛ لأن نظرية التكاتفالاجتماعي، لا يمكن التسليم بصحتها،
بالنسبة للأطوار الأولى.
ولو أمكن التسليم بأن الجماعات المشتقة من الجماعة الأولى،
اندفعت بعوامل بيئية، أوغذائية إلى الهجرة عن
مواطنها الأولى على شاطئ نهر مثلاً، لما جاز أن تقطع طول هذاالنهر، لتهجره إلى بيئات جافة، يقل استعدادها الطبيعي
للزراعة، ولتكوين مجتمعحيواني، أو إلى بيئات
بعيدة يستغرق الوصول إليها عمر الجماعة المهاجرة قطعاً.
ولا شك أن عوامل الانتشار والهجرة من أول بيئة عمّرها
الإنسان ستبقى لغزاً مبهماً.
وعلى قدر الصعوبة في استنتاج النتائج المتعلقة بالحياة
الاجتماعية للإنسان الأول، تتضاعف الصعوبة في الحكم على تطوراته الفكرية والنفسية.
ولا تزال الفكرة عن الخير والشر في بقايا الجماعات
الهمجية، الآن غامضة كل الغموض، بالرغم من أن همجيتها، تعد حياة اجتماعية عريقة،
إذا قيست فكرياً إلى ما يفرضه
العقل لهمجية الإنسان في أطواره الأولى.
وقد تستغربون العلاقة بين الأطوار الاجتماعية الأولى،
والبحث في الأخلاق، ونحننراها في أوثق
العلاقات، وألزمها لباحث يريد أن يحدد الفضائل، التي تقوم كل فضيلةمنها مقام شريعة أدبية قامت بمجهود كبير
في تهذيب النفوس، وتحديد ميولها، وكبحنزعاتها.
إن القوانين التي تسن اليوم، تشير إلى المجهود المضني الذي
تبذله قيادة كل جماعة، لتنظيم حياتها، وعلاقاتها، وإقامة الحدود بين أفرادها،
وتشير إلى التنازع المستمربين رغبات الفرد،
ورغبات الجماعة، أو بين الرغبات التي تمثل المصلحة الفردية، والرغبات المثلى
للجماعة.
ومصادر التشريع اليوم، لا تلقى المقاومة التي تلقاها مصادر
التشريع في الأطوارالهمجية الأولى. فقد
كان كل فرد في جاهلية الحياة، حكومة تمثل نفسها، وتفرضرغباتها، وتمهد السبيل لمصالحها، بقانون قوتها الغاشمة!
فالعهد الذي برزت فيه أول فضيلة، أي أول شريعة أدبية، هو
العهد الذي انبثق فيه فجرالمدنية الفكرية
للإنسان بلا شك، وهو العهد الذي تهيأت فيه الولادة المستمرةللفضائل، والشرائع الأدبية.
كيف نشأ الشعور بهذه الفضيلة؟ وكيف فرضت؟ وكيف تم الإيمان
بها، أو الاصطلاح عليها؟وكيف سادت أحكامها؟
وممن ممثلوها في الجماعة؟ وهل كانوا يمثلون سلطتها؟ وهل كانواأقوياء، أم ضعفاء.
تتداعى هذه الأسئلة في فكر الباحث باعتبار علاقتها بأهم
خطوة في الأطوار الأولىلحياة الإنسان القديم.
ولا شبهة في أن الإنسان عرف النفع والأذى قبل أن تقوم في
نفسه فكرته الأولى عنالخير والشر باعتبار
مفهوميهما العام، فاهتداؤه إلى فكرة الخير والشر، كان بعدعقيدته في النفع والأذى.
والنفع والأذى جاءا، أو جاء الشعور بهما بعد اللذة والألم،
لأنهما صادران عن أحكامجسده وحياته في
نطاقها الحيواني الضيق.
بالحياة، فإنا سنتسامح كثيراً في التقيد بالقيود التي
تستوجبها الدقة العلمية، فيأبحاث تحمل شارة
التقيد بأحكام العقل، والعلم المدقق.
*
* *
نبدأ بتعريف الفضائل، والرجولة، والأخلاق، وهي الكلمات
التي شملها عنوان هذا البحثمع إيماننا بأن
تعريفنا لا يمكن أن يضمن تحديداً دقيقاً لها، إنما يكون أساساً تبنىعليه النظرة الخاصة، وتقوم عليه فروضها.
ولا نستبعد أن يكون ما نقوله في هذهالتعاريف، وفيما
يتلوه من الفروض والنظرات متأثراً بما سبقنا إليه الباحثون. ولنافي هذا رأي نرى إيراده ضرورة.
إن الأساسات المدرسية، والأدبية القديمة، في اللغة
العربية، وفيما دخل عليها مناللغات الأخرى، تكون
جزءاً من فكرة الأديب ومبدئه الأدبي، وجزءاً من نزعاتهالفكرية.
وإذا كان الشاعر في عصرنا لا يخرج بلغته عن جملة الألفاظ
التي استعملها الشعراءقبله، ولا عن قوانين
الصياغة والرصف، ولا عن قوانين التخيل والتصور، فلأنه لايستطيع أن يبتدع لنفسه لغة خاصة، ولا فكراً يصاغ على غير
ما صيغت عليه أفكارالشعراء قبله، ولا
قوانين صياغة غير قوانين لغته التي ورثها.
ومصادر الشعر النفسية والفكرية، وأسبابه العاطفية،
والعقلية، ما تزال هي هي في شاعراليوم وفي شاعر الأمس.
وإذا كانت أوضاع الحياة قد تغيرت، فإن خصائص النفس والفكر
لم تتغير، تغيراً انتزععواطفه الإنسانية
وبدلها.
وإذا كانت العلوم قد تقدمت فليس تقدمها دليل أنه صار ذكاء
الإنسان إلى غير ما كانعليه قبل ألف سنة.
إنما معناه أن الاكتشاف وتقدم وسائل التعليم، وتطور نفوذ
الثروة والسلاح، والتقدمالآلي، وسعت مجالات
الذكاء وضاعفتها.
وإن كان الإنسان المتحضر اليوم لا يعيش كما كان يعيش سلفه،
فإن قلبه لا يزال ذلكالقلب، وقريحته
الشعرية ما تزال تلك القريحة، وما تزال أسباب الحب، ومشاكله، وابتعاثاته، وأوهامه
في نفس شاعر اليوم، هي ذاتها في شاعر الأمس.
فالباحث في الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، لا يمكن أن
يأتي في تعريفها بجديديختلف كثيراً عما أتت
به الملكات والأفهام قبل ألف سنة مثلاً وما يصيبه من تقدمالاكتشافات الفكرية، وتعدد سبل الحياة والعقل، يوسع مجالات
العلائق فقط، ولكنه لايخرج الاعتبارات
الفكرية عن حدودها إلا قليلاً.
وجمود بعض الحقائق النفسية والفكرية معروفة، ما نجدنا
بحاجة إلى التدليل عليه، وإنما تختلف العصور في الإيمان بالحقائق والتوسع في فهم
علاقاتها. فإذا قال مفكر اليوم إن الفضائل أوهام عقلية أو نفسية، غايتها إيجاد مثل
عليا للجموع، تستمد منهاروح العزاء والعزيمة
والأمل، لم يكن معنى هذا إنكار صحة تعاريفها، أو صحة الأحكامالتي أعطيت عنها.
فالشيء قد يكون صحيحاً في ذاته، وصحته لا تستدعي صحة
الفكرة عن الاعتراف بإمكانتطبيقه، أو استحالة
هذا الإمكان، ولا تستدعي الإيمان به أو رفضه.
على أن تحديد بعض الحقائق وتعريفها قد يختلف في عصر عن
عصر، بل في فكر عن فكر، ولكنحقائقها الأصيلة لا
تختلف.
فإذا قال قائل عن الكذب ليس هو حكاية غير الواقع، لاختلاف
التصورات والإدراكات فيبعض النفوس عن بعضها،
لم تكن مقالته إنكاراً لحقيقة الكذب، بل لتحديده وتعريفه.
وقد نكون مسبوقين إلى هذه التحديدات، أو مخالفين بها
تحديدات يظن أنها أكثر دقةواستغراقاً لمعنى ما
تحدده. فما نضطر أحداً إلى التسليم بما نقوله، أو قد يكون كلما نقوله عن الفضائل والرذائل شيئاً قديماً فيما ندعي له
الجدة أمامكم. وقد يكونشيئاً تجدون مشابهه
في الجديد فما تنفى عنه هذه الشبهة.
إنما ندعي الاستقلال، وإنما نقول إن الأساسات المدرسية
والفكرية القديمة، والأساساتالفكرية الجديدة،
وشيوعها، جعلت بين الأفكار العامة روابط صلات، ما ينكر أثرها فيإزالة الفوارق وتقريب الأفكار وتشابه
السمات.
وحسبكم أن تقرأوا اليوم في الحجاز، أساليب من الشعر،
وأساليب من الكتابة، لا يختلفبعضها عما تعرفون
لخيرة الكتاب والشعراء في مصر، فمن يَعُدَّ هذا تقليداً أو سرقة؟
إنما هو أثر الاشتراك العام في مؤثرات فكرية متشابهة، وأثر
انتشار الثقافة، وتهيؤأسباب العلم
لمستحدثات العقل والفكر والصناعة والفنون، وتوثق الصلات الفكريةوالأدبية، وتوحد اللغة والدين، وتقارب
الطباع والأمزجة وتأثير الاختلاط والامتزاجالاجتماعي والفكري.
وفي شعراء مصر من نجد على شعره سمات شاعر عربي قديم، وطابع
صياغته في كُتَّابها مننجد في آثاره ما يعلن
صلته الصريحة بأديب من كبار أدبائها، وفي كبار أدبائها منتطالعنا آثاره بأفكار أديب، أو نظرات عالم، أو مذاهب
فيلسوف من الغرب، فماذا نحنقائلون؟؟
أغير أن مجال الفكر اليوم قد اتسع، وتحرر من القيود التي
أقامتها العزلة القديمةبين الشعوب؟ وإن آثار
حرية الفكر وشيوع مذاهب التفكير وأساليبها في أنحاء العالم، وتقدم المواصلات
والصلات الاقتصادية والفكرية والسياسية قد خلقت طائفة من القراباتالذهنية والأدبية بين الناس؟؟ وكانت سبباً
في القضاء على كثير من أسباب التباينالفكري والأدبي بين
الشعوب المتباينة!
وما نرى بعد ما قلناه، دليلاً على براءتنا من تهمة التقليد
أو ترديد المألوف، أقوىمن ضعف هذا البحث،
واضطراب مذهبنا فيه، هذا الاضطراب الواضح.
والآن نبدأ:
الخلق الفاضل يعرفه الناس، فلا يزيدهم فهماً له أن تقيم
الكلمات والتعاريف حدوده.
فهم يكذبون ويخونون، ويؤمنون بأن الصدق والأمانة نبل.
والرذائل صفات وأعمال تؤمن الجماعة الغالبة اصطلاحاً
بضررها أو بأنها شر.
فالنفع والأذى أساس الاعتبار في الفضائل والرذائل.
والأخلاق هي آثار الفضائل القائمة في النفوس، أو أثر
مزاولتها، والرجولة في ميزانالاعتبار الأدبي،
ليست هي الفارق الطبيعي بين جنسين ولكنها مجموعة من الصفاتالرائعة في الرجل الرائع.
*
* *
ومن حسن الظن أن الألفاظ في مجال البحث الأدبي، وتقرير
التعاريف لا تحدد المفاهيمتحديداً هندسياً،
ولكن تُقربها، لأن مدركات الذهن عادة تقوم بنصيب وافر في تكميلالصور، وحل رموزها، وتوسيع مدى مضامينها
وإشاراتها.
وواضح أني لو أردت أن أضع تعاريف أدق وأكمل للفضيلة
والرذيلة والرجولة والأخلاق، لوجب أن أسوق أمامي قطيعاً من أفكار الحكماء والعلماء
والأدباء والفلاسفة، وأكون قدعرضت عليكم بضاعة
غيري وبهذا تكون اللعبة أقل خطراً مما يراد، أو مما ينتظر.
والإيمان بالفضيلة قديم، كما أن الكفر بالرذيلة قديم،
والحرب بينهما لا تزال قائمة، ما تهدأ لها ثائرة، وهي سجال بينهما، ميدانها النفس
الإنسانية تارة، ومجال الحياةالظاهر تارة أخرى،
وستبقى سجالاً هكذا. إلا إن أراد الله، فإذا انهزمت الرذيلة في مجال الحياة الظاهر،
لم تنهزم في مجالها الباطن، فعرشها ما يزال موطد الأركان فيالنفوس.
فهل كانت الرذيلة ضربة لازبة على الحياة؟
أم أن في النفس الإنسانية ضعفاً؟
ما تكون الحياة كاملة معاني القوة إلا به. وإلابأن يبقى قائماً يذكي نار الصراع فيها
حتى تنتهي إلى غايتها المقدورة لها، أم أنالشر فطرة النفس الإنسانية، والخير عدوها اللدود فما ينفك
يغزوها، وهي تدفعه؛ لأنهالدخيل الواغل على
حياتها، فإن استكانت له فإنما تكون استكانة المجاهد المغلوب علىأمره، لا استكانة الإيمان بالحق، فإذا
استعادت قوتها على الصيال صالت، وعادت سيرتهاالتي مما تتبدل ولا تزول.
ذلك ما لا يجد الفكر عليه جواباً.
لا خلاف في أن الإيمان بالفضيلة، والكفر بالرذيلة، غير
سلوك سبيلهما، لكن الخلافيجيء من التفرقة بين
الإيمان والعمل به، والكفر والعمل به، والموقف من الدقة بحيثيخشى فيه الزلل على العقل البصير.
هذه مسألة لا يجيب عليها العقل وحده، بل يجب أن يُستنجد
لها الضمير؛ فالإيمانبالفضيلة عند
الفارابي -الملقب بأرسطو العرب- خير من سلوك سبيلها على غير إيمان.
وهو يريد بالإيمان هنا المعرفة. معرفة الفيلسوف المتعمق
المنتهي إلى الطمأنينةوالاعتقاد؛ فكأنه
يقول: إذا عرفت أن الصدق خير من الكذب، وآمنت بهذا إيماناً قاطعاًمستمداً من معرفتك، كنت عندي خيراً من
الصادق ما دام لا يماثلك في هذه المعرفة.
واسمعه يقول: “لو وجد رجلان أحدهما واقف على مبادئ وتآليف
أرسطو، ولكن لا يسلكسلوكاً منطبقاً على
مبادئ هذا الفيلسوف، والآخر يسلك سلوكاً منطبقاً على ما جاء فيهذه المؤلفات، ولكنه جاهل بها، فإن الأول
أفضل من الثاني، لأن المعرفة أفضل منالفعل الفاضل!”.
هكذا يقول هذا العقل الجبار، فهل هي كبوة من كبواته، أم هي
حقيقة الحقائق فيالإيمان بالفضيلة؟
إننا نرى وراء هذه الكلمة أمداء مترامية ما يحيط بها الفكر،
فما نود أن نهيم فيهاعلى وجوهنا، قبل أن
نعود إلى الإيمان بالفضيلة، نحدده أو نقيسه، أو نزنه عساه يكونعدتنا لهذه الرحلة العسيرة.
ولا مراء في أن الإيمان الكامل الصحيح بالفضيلة، معرفة،
وعمل، تقتضيه هذه المعرفة، وإرادة، وحرية..
هذا هو المظهر الكامل للإيمان بالفضيلة في اعتقادنا.
فلنستعرض الآن ألواناً أخرىللإيمان بها.
إن الإيمان بالفضيلة دون العمل بمستلزماته، ضعف لا يتناول
حقيقة الإيمان، بل يتناولقوة النفس وضعفها،
وفتورها ونشاطها، فهو إيمان المعرفة، لا إيمان اليقظة.
وهناك لون من ألوان الإيمان بالفضيلة يعمل بمستلزماتها،
ولكنه لا يعرفها المعرفةالتي هي الإيمان، فهو
اندفاع آلي لا اختيار فيه للنفس ولا إرادة، فنصيب النفس فيه، نصيب الآلة في حركة
تؤديها، فهي تتحرك ولا تعي، وتفعل ولا تريد، كالصخرة تتدحرجفتصيب حياً فتقتله، وكالحيوان يطأ حياً فيودي بحياته، لا إرادة،
ولا إدراك.
ولون آخر من الإيمان بالفضيلة تولده الضرورة، لا يكون
لاختيار الإرادة فيه مجال، ولا لحريتها مساغ، كإيمان المرء بضرورة الثبات على
الاستبسال دون نفسه أمام خطرداهم لا مناص له من
مواجهته.
فالثبات هنا ليس إيماناً بالثبات، والعمل بمستلزماته ليس عملاً
بمستلزمات إيمانيقوم على اقتناع
الحرية المختارة، لكنه إيمان ضرورة بهذه المستلزمات والاستجابةلها.
فهذا إيمان، وعمل بمستلزماته وإرادة ظاهرة. لا ينقصه إلا
الاختيار ليكون إيماناًكاملاً، ففيم يختلف
عن إيمان رجل تحمله بالسيف على أن يؤمن بأن الصدق خير من الكذب، وعلى أن يكون
صادقاً؛ فإذا عرف وصدق، فإنما يكون هذا إيمان ضرورة، وعملاً آلياً لااختيار له فيه ولا حرية، وإنما يكون
إيماناً تنتقض عليه نفسه كلما مارسه!
وإيمان بالفضيلة يولده الانقياد التقليدي، لا تنتقض فيه
النفس على شيء، لأنها لاتحس شيئاً، بل تساير عليه
الناس، تراهم يفعلونه فتفعله، لا مختارة ولا مكرهة، وإنكان ظاهره الاختيار والإرادة.
هذا إيمان بهيمي.
نحن نستطيع المقارنة الدقيقة بين هذه الألوان، ونعرف أيها
له الغلبة، ونعرف أنهاتتقاسم النفوس في
القرن العشرين كما كانت تتقاسمها في المراحل الأولى من الحياة، لكنا نؤثر شيئاً
غير المقارنة.
نؤثر أن نجعل السبيل إلى الشك والقياس مجهوداً.
وحسبنا أن نقيم المقياس، أو نصححه، أو نشير إليه ليقيس كل
إيمانه بالفضيلة كما يقومهذا الإيمان في نفسه
لا كما يقوم في أذهان الناس وعيونهم.
أنتم لا تعرفون عني إلا ما أريد لكم أن تعرفوه، وهذه
سبيلكم أمامي.
الإنسان كما يشاء أن يفهمه الناس، غير الإنسان كما هو في
نفسه.هذه حقيقة نعرفها جميعاً.
وفي سرائر النفوس، سراديب تنطوي على ما فيها من عوامل الشر
وآثاره ومن عوامل الخيروآثاره.
ولرب رجل يأتي الأمر، تظنه خيراً كله، وهو سبيله إلى الشر
والأذى، وانتهاك الحرماتومطيته إلى أغراض
خائنة تسبح في دم الضحايا.. يرى إعجابك، وإعجاب الناس بما ظنوهخيراً فيتهلل، لأنه عرف مكانه من براعة
الحيلة، ونفاذ الدهاء! فوارحمتاه للإنسان منأخيه الإنسان.
كلنا يؤمن بضرورة الارتقاء والنهوض، ويؤمن بوسائله وأسبابه
الواضحة وكلنا يؤمنبالفضيلة والخير،
ويكفر بالرذيلة والشر، فهل أفادنا هذا الإيمان؟ هل أفدنا بهارتقاءً أو نهوضاً؟
إنما نراه عاملاً قوياً من عوامل ضعفنا، وإنما نراه أثقلها
وطأة على مواطن الضمائروالهمم فينا، فلماذا؟
ألأنه الإيمان الذي يدعوه الفارابي عملاً فاضلاً، ولا يدعوهمعرفة؟
أم لأنه إيمان الضرورة، الذي لا يخرج بالإنسان من حدود
ذاته المغلوبة.
أم تراه الإيمان البهيمي، فيه الانقياد، وفيه العمل، وفيه
الاختيار الظاهر وفيه
الإرادة الزائفة، وليس فيه الإيمان؟؟
وبعد.. فهذا حد العظة الآن، في حديثي عن الفضيلة وعن
الإيمان بها، أوجزت الكلامفيه، لأن الوعظ يمس
النفوس ولا يرجها، ويثير فيها الرغبة، ولا يوقظ الإرادة، ولأنيلا أريد لحديثي الليلة أن يكون موعظة،
تلف النفوس فيما يشبه الغيم الرقيق، لا هويجلوها ولا هو يتركها في غياهبها المطبقة.
إنما أريد الوضوح والتعرية، وإنما أريد أن نعرف جميعاً
حقيقة الفضائل والرذائل، وقرابتها من العقل المبصر، وحقيقة الإيمان بها، ونصيب هذا
الإيمان من الصحة والقوة، كما نعرف حقيقة كائن حتى نشأ وترعرع واكتمل وانساق
بعوامل الحياة حوله. عسانا إنآمنا بالفضيلة بعد،
أن نؤمن بشيء نعرف معناه، ونعرف مواضع الضعف والقوة فيه.
والآن بعد أن بسطت لكم هذا التمهيد أسأل:
هل كانت الفضيلة، أو كان الشعور بها، أساس البناء الخلقي
في الحياة؟
ولا معدى هنا من توسيع مدى النظرة وإطلاقها، وإغفال أصوات
المعارضة ولو قليلاً، هيهدنة نلتمسها، والباب
بعدها على مصراعيه للرفض والإنكار.
*
* *
إن مطالب الحياة للإنسان الأول لم تكن تعدو حاجته إلى
الطعام والمأوى والقوانينالأدبية لا تنبت إلا
حيث تتسع مطالب الحياة، وتتعدد صورها، وتنفرج مسافاتها، وهذااستقراء واضح لا غموض فيه.
في هذا الطور البدائي من الحياة تكون القوة العارية مبدأ الإنسان
وقانونه، وتكونالرجولة رمز هذه
القوة لأن للأنوثة فيه حدها الذي لا تتعداه، ويكون الرجل المرموق، من استطاع أن
يكتسب طعامه، وأن يقيم مأواه الواقي.
فالرجولة في هذا الطور شيء يتعلق بقوة الجسد، لا بقوى
النفس، ووشائج أطوارهاالباطنة وتكون أيضاً
الأصل في نشأة اعتبارات المحاسن، أو نشأة حلقاتها الأولى.
ونحن نسوق الكلام مساق التقرير. والواقع أنا نفترض فروضاً
عقلية مجردة نلتمس أنتقيم لنا حدود الفهم
والتصور والاقتناع، فالبحث في أصل نشأة الأنواع، أو في أصلنشأة الحياة الاجتماعية، لا يشبه في الغموض أصل نشأة الأخلاق
والفضائل وتطورها وإنكان ارتباطه الوثيق
بالحياة الاجتماعية، شيئاً لا شك فيه.
ونزيد قولنا وضوحاً فنقول إننا لا نرى معنى لنشوء الفضائل
في الطور الأول من حياةالإنسان القديم.
هنا إنسان لا يعرف إلاّ جسده وغرائزه وضروراته، مطلبه
الأول: قوت، ووقاية.
والغرائز قائده الخفي، وبصيرته الملهمة وسلاحه، فهي مادة
التكوين الباطن فيه، لاتصدر الحركات
والاندفاعات والشهوات إلا عن أحكامها القاهرة.
الغذاء -الحياة!
هذا تنازع البقاء
الغذاء -الحياة!
هما المادة التي يتكون منها دستوره الأول.
وما زالت الغرائز في الإنسان والحيوان مظهر حياتهما
الفطري، ومادة الاشتقاق وسبيلالتحول.
والغذاء مطلب مشترك للإنسان والحيوان الضاري على السواء
ولكن الحيوان الضاري أقدرعلى هذا المطلب،
وأسعى له، وهنا موضع الاحتكاك والصراع.
فلا جرم أن يمتحن الإنسان في هذا الطور بعواد من الجهاد،
ومفاجآته الطارئة، تتطلبالصبر والثبات والقوة
العارمة، وتتطلب إلى هذا تبادل المعونة والنجدة، والتكاتف علىدفع المخاطر.
وفي وسعنا الآن أن نقول: إن الإنسان إنما أراد بمسعاه
الأول في حياته الأولى، تحقيقمطلب حياته الصارخ
(الغذاء) وهو من صبره على ما يلقاه من عنت في هذه السبيلالمملوءة بالمخاطر. عرف الصبر والثبات والشجاعة، وطائفة من
هذه المحاسن المتصلةبضرورات عيشه.
نحن ندعوها محاسن أو فضائل، وهو يراها ضرورات تتصل بحياته
يأتيها طائعاً أو مكرهاً، لأنه يريد أن يعيش.
وفي هذا الطور عرف الخوف، واعتاد الفرار، وأحس الجبن،
وانعقال القوى.
نحن ندعو هذه معائب أو رذائل، وهو يراها سبيل حياته
وبقائه. هي ضرورات قائمة في دمهيستجيب لها طائعاً أو
مكرهاً، لأنه لا يريد أن يموت.
رَأَى هذا الإنسان، أثر القوة في الحيوانات الضارية حوله
وهو ضعيف، فأحس الحاجة إلىالقوة وأحبها بقدر ما
فيه من إرادة الحياة وحبها.
ورَأَى أثر القوة في الحيوانات الضعيفة، إذا تجمعت وتعاونت
على اتقاء المخاطر، فأحسالضرورة إلى التعاون.
وإذا كان بين الحيوانات الضعيفة، ما يزيدها التجمع ضعفاً،
فالمرجح أن تجمعها فيأطوار الحياة الأولى،
كان يمثل إرادة البقاء. والأرجح أن هذه الحيوانات لم تكنموجودة بلا سلاح، يوم كان كل حي في الوجود مسلحاً بما يدفع
به الغائلة عن حياته، فالذي لا تكفي قوته للدفاع تتحول فيه إرادة البقاء إلى كفاءة
جريء أو مقدرة علىالتشكل والاختفاء.
وأثر الغرائز في الإنسان، أضعف من أثرها في الحيوان.
كان هذا هكذا، وما يزال هكذا.
فالفرّوج على ضعف بنيته وتركيبه، يندفع إلى الحياة نشيطاً
آلفاً محيطه، مضطلعاًبمؤثراته العنيفة.
لكن الإنسان الصغير والطفل، يفتقر إلى المعونة الدائمة من
والديه حتى يقوى.
إذاً ضعف الإنسان اقتضى شيئاً، اقتضى التجمع، التجمع
التعاوني وكان تجمعه قبل ذلكطبيعياً محدوداً.
وضرورات جهاده للغذاء، اقتضت التعاون على مثال أرقى، والتعاوناقتضى تجمعاً آخر معنوياً.. الاقتسام،
الاشتراك، التعاطف.
وما يزال التعاطف في حياة البشر، ضرورة منشؤها الضعف،
والشعور به في أفراد الجماعة، وفي أفراد الجنس.
هذا يشير إلى ذاك.
في هذا الطور بدأ الشعور بضرورة التكتل يقوى.
الحيوانات الضعيفة تتكتل وتتجمهر.
إذاً شعور الإنسان بالضعف اقتضى التكتل أمام المؤثرات
المشتركة “أخطار الحيواناتوالطبيعة” فاتسعت
الدائرة قليلاً وأصبح الاجتماع ضرورة. وأصبحت له فرائض جماعية، نزل لأجلها عن شيء
من أنانيته.
هذا واضح في حياتنا أيضاً.
أفراد الطبقة الممتازة في الجماعة، أميل إلى التباعد
والعزلة، لشعورهم بالقوةوالاكتفاء، وعندما
تكون بواعث التكتل، مذيبة لفرائض العزلة، يتجمعون ويخرجون منحدودها، لشعورهم بالضعف وينزلون عن شيء من امتيازات تميزهم
لفرائض الجماعة، ولفرائضالاشتراك والتعاون.
هذه ضرورات حياة.
ماذا يفعل الإنسان القديم في طور الكفاح الغشيم للحياة، لو
أنه انفرد؟ وجافىجماعته؟
يموت جوعاً، أو خوفاً، أو يفترس، يندر أن ينجو.. لأن
الحيوانات، حتى الحيوانات
الضعيفة أقدر منه على الشم والجري والنظر، والإحساس الفطري
بالمخاطر، وتجنبها.هي ذات غرائز قوية وهو ذو
غرائز ضعيفة.
السبع، لا يخاف النمر، ولا يخاف الذئب لأنه يغلبهما،
ويفترس ما دونه فانتفاء الخوفعنه جعله ينفرد. قوته
وصولته تتكفلان بعيشه وحمايته.
الإنسان يخاف السبع والنمر والذئب، ويخاف الوعول والكلاب.
هي ذات براثن وحوافروأظلاف وقرون ونيوب.
وهو ذو حجر وعصا وأنشوطة، وذو حيلة وصبر ومهارة. فما يخشاه
السبع إذا انفرد، ولكنهيخشاه إذا تجمع.
فالتجمع تكفل بحماية الإنسان، ووسع دائرة تعاونه وتعاطفه.
كانت انفعالاته جسدية محضة، فأصبحت انفعالات جسدية نفسية
استمد إدراكها من ضرورةالعناية بابنه
وبرفيقته… (بأم هذا الابن) ومن مظهر التعاون بينه وبين رفيقه، وشريكهفي الصراع اليومي والاشتراك لون من ألوان
القرابة المؤثرة، ما يزال هكذا.
ارتقت غرائز الإنسان وتقدمت، تطورت قليلاً، فولدت الشعور
بالتعاطف كضرورة.
كان التعاطف الدعوة الأولى إلى نشوء عواطف محدودة في
الإنسان ضاقت معها حدودأنانيته قليلاً..
وأخذت تضيق باتساع عوامل الضرورات الجديدة، المتحولة عن الضروراتالأولى.
كان يحب نفسه وأسرته، فصار يحب الجماعة أيضاً. كان يحب
مأواه، فصار يحب مأوى هذهالجماعة.. (المأوى
العام الموطن)، لأنه في اعتباره، موضع انتفاء الخوف، واتقاء
عوادي الطبيعة، وموضع ألفة ألوان من الحياة، والجماعة
والقرابة، وتبادل العلمبالأشياء وفهمها،
والتحدث عنها، وموطن ذكريات النشأة الأولى، وخطرات النفس في أولشعرها بما حولها، وبما فوقها من مجهولات
تخيف وتثير وموطن تكتل الجماعة وشعورالأُنس بها.
وحب الوطن فضيلة -لا شك-.
هو فضيلة المتوحش والهمجي والاجتماعي والمتمدن، وفضيلة قد
تتسع وتمتد حتى تكونأساساً لحب الموطن
العام للبشرية كما كان حب المأوى الخاص أساساً لحب الموطنالجماعي، فالموطن القومي.
فهل كان أساسها إلا الضرورة؟ وهل كان الوطن عند الإنسان
القديم إلا هذه المعاني؟وإلا قرابة مدلولاتها
من حياته.
فالغرائز، وضرورات الحياة، والشعور بالضعف، هي المعين الذي
استمدت منه تطوراتالإنسان في تكتله،
وتعاونه، وتعاطفه، ومزاياه الأولى خصائصها ومقوماتها، كما كانتالقوة في الرجل القادر، رمز الشعور بالمحاسن
أو مثار الإعجاب والمحاكاة.
وفي وسعنا الآن أن نستخلص مما تقدم أن الرجولة، كمظهر
للقوة ومقدراتها كانت أصلالشعور بمحاسن القوة،
والأصل الذي اشتقت منه القيادة المحدودة والزعامة المطلقة، بعد.
*
* *
هذه صور متلاحقة سريعة، أعرضها في دقائق، فتدركونها، وترتبونها
وتحسون الترابطالوثيق بينها. لكن كل
صورة منها كانت في حياة الإنسان القديم أجزاء، ما يتألف منهاجزء على جزء إلا ببطء كبير.
لم تكن الحياة سخية كما هي الآن، ولا كما كانت قبل ألفي
سنة. ولم تكن الحوادثوالتطورات تسير
بالسهولة التي تسير بها الآن وقبل ألفي سنة. كان كل شيء في الحياةيبدو مخيفاً، مغلقاً، جامداً، مبهماً
بطيئاً، لا يزحف، ولكن يختلج، ويتقدم بصعوبة.
وكان الإنسان يهيم في ظلمة مطبقة من نفسه، ومن الأخطار
والألغاز المتوثبة حوله، وتحته، وفوقه.
الشمس، العاصفة، الليل، القمر، النجوم، المرض، الموت، الأحلام،
الصاعقة، البرق، كلها غامض وكلها مرعب نحن نفهمها ونستمد من بعضها أسباب سرورنا
بالحياة، وسرورنابأنفسنا، ولكن
الإنسان القديم كان يخافها ويجهلها.
كانت كلها ألغازاً مجهولة معقدة، ما يرتفع عنها الستار،
ولكن يزحزحه الإنسان، وذخيرته ما يلقى في روعه عنها. وهو يتوجس الموت في كل خطوة
مرتجفة يخطوها، وفي كلخطرة من خطرات نفسه
القلقة وبصيرته الكليلة.
الأشد ما عانى هذا الإنسان القديم، كم جاهد، واحتمل
المشقّات والأهوال وخاف، ولقيالموت عارياً، في
مراحل نشأته الأولى وحياته، حتى مهد لنا سبيل الحياة الآمنة.. ولوأنه كان مضطراً أن يفعل.
ها نحن نجاهد بعد انبثاق فجر المدنية آلاف السنين للتقدم،
وها نحن نلقى الطبيعة، وقد قلت في نفوسنا هيبة مخاطرها المرعبة، وانزاحت ظلماتها
المتراكبة، وارتقت وسائلالدفاع ووضحت مسالك
العقل، وندرت المخاوف.. وما زلنا نخشى الظلمة، وما زالت فرائضناترتعد من حركة مجهولة فيها، وما زلنا
نخشى المغاور والثقوب والمفاجآت المنبعثةمنها.
فالدنيا كلها كانت مغارة مظلمة، أمام الإنسان القديم تترصد
له فيها كلمات خطا خطوة، مخاوف الموت حاسرة أو مستخفية، وطافرة أو زاحفة… رائحة
الموت في كل شيء..!
وكان البطء الممتد المرعب، والتجارب القاسية القتالة،
مفتاح هذه المستحيلاتوالمجهولات ومفتاحها
الفرد.
والحساب هنا ليس حساب سنين، لكنه حساب أجيال، في وسعنا أن
نفترضها، متى قارنا طفلالقرن العشرين، بجده
الإنسان القديم البعيد.
الطفل الذي تقوم على تربيته الأولى أمة بأسرها، بغرائبها،
ومعلوماتها، وحضارتها، أمة يؤلفها المنزل، والزقاق، والحارة، والمدينة والمدرسة،
وذخائر من الكتب والقواعدوالدين واللغة
الكاملة والحب والعواطف، والعادات والتقاليد، والغرائز المهذبة، وقوانين الوراثة
ووسائل الحضارة، والأمن والرخاء.
هذا الطفل الذي ما يبلغ مرحلة رشده الأولى حتى تتصبب الأمة
عرقاً، وتتهافت إعياء، أين هو من الإنسان القديم الأعزل المندفع في بيئة مظلمة،
تحتل الحيوانات الضاريةنقطة الحياة منها؟
والذي مأواه كهف ضيق مظلم، أو رأس شجرة وفروعها، تتردد حولهماالمخاطر عارية، ويتردد حولهما الجوع
والرعب، والريح التي تشي برائحته؟
*
* *
بهذا المقياس نقيس بطء التطور في هذه المراحل المتساوقة،
وإن كانت طبيعة العرضللصور المتلاحقة
أمامكم، تختزل هذه الأمداء المترامية في كلمات..
والآن إلى القوة.
فرصة الحياة شائعة يأخذ كل فرد في الجماعة بنصيبه منها.
هذا يطارد الغزال، وهذا يكمن له.
هذا يصيد أكثر لأنه أكثر قوة وحيلة.
وهذا لا يصيد لأنه أقل قوة وحيلة.
لا يصيد كثيراً إلا الأقوى
هذان طفلان يموتان في مطلع حياتهما، بسبب ظاهر أو خفي.
وهذا طفل يعيش.
هو قوي، وهما ضعيفان.
القوي يعيش، والضعيف يموت
هذا قوي يسقط من شجرة فيموت.
وهذا قوي تطبق عليه صخرة فيموت.
لم يموتا لأنهما ضعيفان: دهشة، انقباض، إذعان، صدفة، حظ
هذا قوي يصارع الرجال فيغلبهم (قوي).
هذا قوي يصارع الأسود ويصطادها (أقوى).
هذه مقارنة ثم: (خوف، حسد، تسليم، بطولة، زعامة).
هكذا آمن الإنسان بالقوة، وبمظاهر اقتدارها.
وكذا آمن بالحظ.. والزعامة.. والبطولة.
وهكذا قارن واستنتج.
ودّع الإنسان عهده القديم، وقابل عهداً جديداً.
تراث هذا العهد المتحول: غرائز تلطفت حدتها.
عواطف محدودة بين أفراد الأسرة.
تعاطف تعاوني بين أفراد الجماعة.
إيمان مطلق بقوة الجسد (الرجولة، البطولة، الزعامة).
يمتاز الطور الجديد بأنه أكثر ضماناً لطمأنينة الفرد
والجماعة من سابقه، وبأنه أوفرغذاء.. لأنه عهد أكثر
رخاء، ولأنه عهد ذو تراث.
هذه فرصة ينتهزها الإنسان للابتعاد عن حياة القلق والعراك،
وللخروج من حدودهاقليلاً.
هي فرصة الراحة بعد العناء، فرصة التعقل الهادئ، والالتفات
والتأمل.
تدلنا أطوار الجماعات الهمجية الآن على أن سعة الشعور
والإدراك، وامتداد التخيل، وتصور أمثلة أرقى للمدركات، والإحساس النفسي بالنزوع
إليها، والصبوة إلى تحقيقها لايمكن أن يتأتى شيء
منه للإنسان في أطواره الأولى، إلا كلما قطع مرحلة في تقدمهالاجتماعي والفكري.
فالرجل البدائي، أو الهمجي مثلاً، لا يكون إلا مثال القصد
والاكتفاء والوضوح،
وانتفاء التعقد، في ظواهره وبواطنه.
ثم هو بقدر ابتعاده عن بيئته الطبيعية الأولى، وقوانينها،
ودخوله في بيئات أكثرتعقداً، يأخذ في
التحلل من تأثير إيمانه القديم بقوانين حياته الآبدة، ومطالبهاالمحدودة.
فنشوء المحاسن الاختيارية إذاً لا يمكن أن يكون إلا من صنع
التقدم الفكري
والاجتماعي، لازدحامه بالصور والأوضاع التي لا يمكن أن
يعالج حل عقدها، بمنطق القوةوحده، والطور الجديد
الذي نتكلم عنه الآن، وهو بيئة أكثر تعقداً وإن كانت أقلخطراً.
والتقدم الفكري والاجتماعي، تطور يتناول المدركات الحسية
والمعنوية بالتحويروالتعديل والزيادة
والنقص، يعطي قليلاً ويأخذ أقل.
وهو في أطواره الأولى يزيد خصائص الشعور بالقرابة الجماعية
ويؤكدها. فلا غرابةإذاً، في أن يكون طور
الانتقال البطيء من حياة التنازع الغشيم، سبباً في حملالإنسان على الالتفات إلى الماضي، الذي ما زالت تربطه به
روابط وثيقة.
هذا رجل شامخ القوة، حطّمه الجهاد، أو حطمته السن بكلالها
الطبيعي، لا بد أن تعتبرهالجماعة القوية شيئاً
من تراث أمسها الغابر، تقبل عليه بالرعاية والإيناس وتوليهإكبارها، وتعود إلى رأيه المستمد من ذخيرة تجاربه الواسعة،
وتأملاته الهادئة فيكونبهذا قائد حركتها، أو
معنى بارز الأثر في قيادة هذه الحركة.
وهذه امرأة فقدت ابنها القوي الذي كانت أياديه على الجماعة
ما تنقطع فقعد
بها الحزنعليه، وافتقاد
الإعجاب به، والراحة إلى قربه، تكون مصيبتها رمزاً لمصائب الجماعة، وبعثاً لأحزان
الأمهات والآباء فيها فنجد النفوس في مواساتها، وتخفيف لوعتهاوإعانتها على قطع الرحلة الباقية لها
-واجباً- يستنبط الشعور بضرورته، شعور الرقةوالعطف، والارتياح إلى الإحسان.
وهكذا تنشأ العواطف أجزاء ثم تتواءم، ويزداد أثر الشعور
بها، والحاجة إلى المبالغةفيها والاستزادة
منها، وضوحاً في النفس بازدياد بواعثها وأسبابها، حتى تكون أخيراًالنداء الملح إلى بروز الفضائل، وتكون
اعتباراتها الأولى.
وكما كانت اللغة في أصل نشأتها أصواتاً ومقاطع، فقد كانت
السلسلة الطويلة منميراثنا الإنساني في
الفضائل حلقات أبجدية، مشتقة من مؤثرات الحياة الأولى، وضروراتها الظاهرة والباطنة.
وقد قلنا إن القوة في الطور القديم كانت أصل نشأة الشعور
بمحاسن الرجولة، والميلإلى تقليدها،
واتباعها. أو كانت تمهيداً طبيعياً لنشأة المحاسن الاصطلاحية، وتمهيداً للإيمان
بها، وتحتيمه فيما بعد.
ومن ينكر هذا على الطور الذي كانت فيه القوة الجسدية، مصدر
الاعتبارات كلها؟ألسنا في القرن العشرين وفي دولة الفكر، نرى أن القوّة مصدر
السلطان؟ وأن سلطانهاعطل قوة الروح،
وإعتاق نفوذها، وقام يرسم للأخلاق حدودها الجديدة، كما يفعل القائدلجنوده؟
ألسنا نرى عصف القوة بالمبادئ الخلقية والإنسانية، وعصفها
بالضعف والقلة وخنقهالشعور الإنسان بحرية
اختياره حتى في نفسه؟
إذاً فالطور الغشيم، ونقصد به الطور البدائي انتهى
بالجماعة إلى اعتبارات روحية، زاحمت فيها قوة الجسد، قوّة أخرى معنوية، تحولت عن
قوة الجسد.
قوّة أخرى معنوية، كان يمثلها رجال أقوياء (أجساد قوية)
مات بعضها في إبان نشاطهمخلفاً ذكريات حياته
النابضة في الأسرة والجماعة، وبقي بعضها ماثلاً، وقد أعياهالكفاح القديم وأضناه هذا من تراث الماضي.
ماضي الغلاب والعوادي والظُلمة.
هو قوّة ولكنها ذابلة حائلة، فهي بالضعف أشبه. بل هي ضعف
ولكنه ضعف محترم محبوب.
هي شيخوخة الأم وشيخوخة الأب. بل هي الشيخوخة في غير الأم
والأب. وهي الزمانةوالكلال في الأخ
والرفيق، وفي غير الأخ والرفيق.
وهي طفولة طفل خلفه فرد من الأسرة، أو فرد قريب من الجماعة
أو خلفه.. رجل.
فهذا ضعف قوي يفرض نفسه على القوة فرْضاً ويحتم عليها
السنن والواجبات له، ويلقيعليها الأعباء
تؤودها، ولكن تسرها.
وهو ضعف ينازل القوّة وجهاً لوجه، ولكن في غير ميدان الجسد
الذي خلفته وراءها يشرقبدم الضحايا من
الحيوان والإنسان، ضعف نبيل كانت الدعوة الأولى إليه صرخة الطفلوبسمته وعواطف النبوة والأبوة والأمومة
والقرابة والاشتراك.
وهو في يوم الجماعة الجديد، مولود الجماعة كلها في أول
استهلاله وهو المادة الأولىفي شريعتها الأدبية.
ويشير انبثاق فجر جديد، شعرت بعده الجماعة بانطلاق حدودها، فبدأ القانون الأدبي
يتألف، تؤلفه العواطف، ويؤلفه الشعور أو تؤلفه ضرورات أدبية.
فهذا طور من الحياة جديد، يهزم أو يخلف طوراً من الحياة
قديماً وقد تمت له الغلبةأو كادت.
لكن الغلبة هنا ليس معناها استغراق الغالب للمغلوب وليس
معناها أن الناس كلهم، فقدوا غرائزهم بل هذّبوها، وحوّلوها، واتجهوا بها اتجاهاً
يوائم مقتضيات الطورالجديد ومطالبه.
والناس منذ كانوا لا يتشابهون ضعفاً وقوّة وهم في أطوار
الانتقالات لا يتساوونإدراكاً وكفاءة
للاضطلاع بأعبائها وألفة فروضها الجديدة، ولا يتساوون كفراًوإيماناً بواجباتها ومزاياها.
وإنك لترى خمسين طيراً من جنس، لا يختلف فيها طير عن طير
في طريقة إحساسه بما حولهواستجابته لمطالب
غريزته وفي ألفته ونفوره.
ولكنك تكون أمام أفراد من أسرة معينة، في بيئة خاصة، في
جماعة تؤلف بينها وشائجالقرابات الممتدة،
فتكون أمام طائفة من الاختلافات لا يوائم فيها طور طوراً، ولاتطابق فيها صفة صفة، ولا يماثل فيها مزاج
مزاجاً.
وهكذا تكون كلما صعدت، رأيت التمايز والاختلاف بين الناس
متسعاً. والجماعات الهمجيةأقرب إلى التشابه
ولكنه تناقض واضح، وإن كانا في الظاهر، قريباً من قريب في اعتبارموازين التقدم التمدني أو النظرة العابرة.
فلا يدع أن يخرج على هذا القانون الأدبي الجديد أفراد يقل
أثر الشعور بالشريعةالأدبية في نفوسهم،
إما لأنها تمثل السلطة للأفراد السائدين، فهذه شارة التمردعليهم، وإما لأن فوارق الإدراك من شأنها أن تفعل هذا. فلا
جرم أن يكونوا عاجزين عنمسايرة التطور
الجديد، لأن أثر الأنانية الغريزية فيهم أوضح، وأثر (الغيرية) أضعف، واختلاف
العوامل النفسية ما يزال هكذا، حتى عندما يكون اتجاه الجماعة متحداً.
من هنا تنشأ الرذيلة، أو تنشأ الفكرة الأولى عنها، وتكون
في شكلها البدائي (عيباً، أو نقصاً) سببه الإضراب عن مسايرة الجماعة.
*
* *
كانت القوّة في الرجل مصدر الإعجاب والتقديس. والقوة ما
تعرف الهوادة في تأمين سبيلحياتها ومطالبها.وكان الناس يتفاوتون في
نصيبهم من هذه القوة، فامتاز في الجماعة أفراد، تفاوتواأيضاً في درجات تمايزهم.
هذا أكثر استفزازاً لشعور الجماعة، وهذا أقل
وكان الطور طور ألفة واتحاد، وتعاون، وهذه ضرورات فلا
رذيلة ولا فضيلة وإنما مقابحومحاسن تتعلق بالجسد
وكفاءته الظاهرة قوة وضعفاً.
هذا يشير إلى أن الفطرة البشرية ليست فطرة شر، ولا هي فطرة
خير في مبدأ ظهورها علىمسرح الكفاح للحياة.
فإذا كانت سبلها إلى البقاء تقتضي الخير فعلته مطمئنة، وإذاكانت تقتضي الشر فعلته غير مكترثة.
فالخير والشر قبل أن يصبحا من مفاهيم الإدراك الأدبي، في
أطوار الانتقالات
الاجتماعية البطيئة، لم يكونا خيراً وشراً، فيما يتصل
بأعمال الإنسان، بل كانت هناكالحياة وكان الجسد
وكانت الضرورة.
هذا إنسان يريد أن يعيش، يكمن لحيوان ويصرعه. أفي هذا شر؟
ماذا كان في وسعه أن يفعلالحيوان نفسه، لو ظفر
به لجعل منه مادة غذائية. هذه حرب للحياة، وليست حرباً لشرمقصود، أو مفهوم.
الطبيعة ذاتها..! ألا تحمل بدورها على العاري والضعيف
والضال؟ ألا تشح بالمطر؟ ألاترسل الصاعقة؟ ألا
تبعث الزلازل؟ والتغيرات المفاجئة والكوارث؟ ألا تدحرج صخرةفتقتل بها رجلاً قوياً غافلاً؟! من يقول إن هذا شر؟ إنما
هو نظامها، وطريق مسراهاإلى غايتها المرسومة
لها من خالقها القوي الحكيم، فهو طريق الإنسان والحيوان إلىغايتهما أيضاً.
في هذا الطور كان التعاون ضرورة، وللتعاون الجماعي فرائض
وسعت حدود النفس كثيراً أوقليلاً. وكان ضرورياً
أن يتقبل فيه الإنسان فرائض الجماعة، عندما كانت حاجته إلىالحماية والتعاون ضرورة وخوفه من الطبيعة قاسياً.
فإذا تغير هذا الوضع قليلاً، وقلت المخاوف من الانفراد،
وتقدمت وسائل العيش، وتعددت- مال إلى إظهار الشعور بحريته، والتمتع
بمزايا مقدرته وقصرها على نفسه وأسرته، وتولد عنده الميل إلى المخالفة والاعتزال.
فلو اعتبر هذا في عرف الجماعة الغالبة خروجاً معنوياً على
أساليبها المتبعة لم يكنالخروج الذي يقتضي
الحرب، وشن الغارة، لأن الشرائع الأدبية في بدء نشوئها والشعوربمزاياها، تكون مطلباً كمالياً، أو فرض
كفاية يتلمس الطريق إلى النفوس في هدوءفمشاعر الجماعة هي
التي كونته فحاجته إلى القوة تفرضه وتحتمه.
لذلك كان سلاح القوانين الاجتماعية، والشرائع الأدبية،
القوة لا الإقناع في الأطوارالتي قام بها ما يشبه
الحكم، أو القيادة (أي في الأطوار الأكثر تقدماً).
عندما يكون الناس مختارين لا يفعلون شيئاً إلا من تجعلهم
مواهبهم ومشاعرهم الخاصةفي طور أرقى من طور
الجماعة.. هذا في القرن العشرين أوضح مما كان في حياة الإنسانالأولى أو في حياة الهمج.
اختلاف الطبقات نظام سيىء، يجعل الأنانية، أنانية جماعية،
لا أنانية فرد. الفقيريشعر شعوراً متطرفاً
بشكوى فقد مثله أو دونه، الغني لا يشعر كشعوره، إلا نحو غني مندرجته، أو أقل قليلاً.
الفقير يعرف حرارة الجوع.
الغني يعرف حرارة الاضطرار لبيع المنزل، المسكين عنده من
اضطر لبيعه فهو في دنياغير دنيا الفقير.
ما تزال عواطف الرحمة، والشفقة، والنخوة، ومشاركات الشعور،
في الجماعات الدنيا، أكثر منها في الجماعة العليا.. (لعل هذا قانون الشعور بالضعف،
أو قانون التشابه فيمؤثرات مشتركة) أو
لعله (قانون السذاجة).
النعمة لا تبطر… ولكنها قوة تجعل الإنسان انفرادياً، فهي
تسد مسام الشعور والإحساس، وتقفل نوافذ النفس.
بل إنها تبطر، ألم يقل الكتاب العزيز: (( كَلاَّ إنَّ
الإنسان ليطغى* أن رءاهاستغنى)) ..
ليس الأغنياء كلهم ولا الفقراء كلهم هكذا.
هناك غني يشعر، ويستجيب دواعي نفسه، ولكن في الألف.
وهناك فقير لا يشعر، ولا يستجيب، ولكن في الألف.
*
* *
لم يكن في حياة الإنسان القديم فقر، ولا غناء، ولم تكن هناك
طبقات وفوارق، كانتالثروة جسداً قوياً،
والسلاح قوة. (هذا أقل قوة، هذا قوي، هذا أقوى) وكانت المشاعرواحدة، والغاية واحدة والسبيل واحدة.
لذلك يكون الشذوذ على المطلب الجماعي الأدبي، ضعيفاً،
ومتقطعاً وخافتاً.
فإذا كان العهد الجديد أكثر رخاء، وأكثر أمناً، وهو هكذا
قطعاً، كان الاستغناء
المفروض عن هذه القلة الشاذة، وعما تؤديه ممكناً جداً.
فمتى ساهم الفرد في رد الغارة عن جماعته، وفي أداء نصيبه
من الجهد إزاء الأخطارالتي تهدد طمأنينتها،
ومتى عال نفسه وأسرته وشارك الجماعة في حمالاتها، وتبعاتهاالمادية، كان قيامه بالفرائض في شريعتها الجديدة شيئاً اختيارياً،
له قيمته، ولهجزاؤه في العرف
والاعتبار الأدبي فإذا شح بما يقتضيه العرف على الضعفاء والشيوخ، كان جافياً على
نفسه، وعلى درجة اعتباره المعنوي بين الجماعة.
هكذا تشعر القوة الممثلة للشريعة الجديدة، والقوة الخارجة
عليها في الابتداء…
ولكن الحوادث تلعب دورها بينهما، بعد…
تبدأ الخصومة بين الضعف الذي كان مصدر قوة التشريع، وسبب
وضعه والذي نازل القوةفهزمها، وحبب إليها
الهزيمة، فأصبح مصدر السلطة الروحية في قانونها الجديد وبينالقوة التي رجحت اعتزال الجماعة، والخروج على قانونها.
يبدأ التنكر والعراك بينهما، هادئين ثم مخيفين.
وسواء أشرع الضعف (المتسلط) قانونية هذا العراك الشعري أو
شرعه الأقوياء الفضلاءباسمه فإنه المصدر.
هكذا انشطر تقديس القوة -التي مظهرها كفاية الجسد- إلى شطرين.
كما انشطرت القوة إلى شطرين، تحول أحدهما إلى قوة ذات
سجايا نافعة لجماعة الضعفاءفاتسع أمامه مجال
التطور، والظهور والتأثير، لأنه قوة نبيلة معقولة، والآخر قوة لاتخرج من حدود ذاتها الضيقة.
الأول قوة متعدية أو منصرفة.
والثاني قوة لازمة، أو جامدة.
ما زالت الفضائل المتعدية في القرن العشرين، وفي جاهلية
الجماعات أكثر أعواناً، وأكبر نصيباً من تقدير الناس وإقبالهم.
والعراك دائماً يخلق ميادين النشاط والتزيد ويوسعها، وهذا
عراك السجايا بين قوتين.. عراك
جديد، لأنه نمط جديد.
فالفضائل الناشئة في هذا التطور تكون مظهراً للاختيار
والقصد أولاً، أو مظهراًلضرورات أدبية، ثم
تستحيل ممارستها، والحرص على الإنصاف بها إلى نوع من اللذةالخفية، وتداعي الشعور بحلاوة ما تلقاه من إعجاب وتشجيع
ومناصرة.
والعزلة تتخذ مظهر الحرد والعناد والإصرار لما تلقاه من
مقاومة وزراية واستغناءعنها فتمعن فيما يزيد
حنق الجماعة ويسيء إليها.. هذا مفترق الطريق للقوّتين.
وليس في تغلب قوة على قوة تماثلها في ميادين التطاحن، شر
ولا نذالة كلتاهما تعملللبقاء والسيادة،
وكلتاهما تدافع عن حق تراه حقاً، فالنزاع بينهمامشروع، كما كانالنزاع بين الإنسان
والحيوان مشروعاً.
لكن قوة الخارجين على الشريعة الأدبية للجماعة هنا، لا
تنازل قوة تماثلها، بل تنازلضعفاً.. تحميه قوة..
فالانتصار عليه نذالة ولؤم.
هكذا يتولّد الشعور بالرذيلة، وفهمها واضحين.
بدأت الفضيلة قوية مؤزّرة، وبدأت الرذيلة ضعيفة متكوّرة.
ما تزال صرخة الفضيلة أقوى، في نفوس الجماعة.
ألمانيا تقول الحق، العدالة، المنطق.
إنجلترا تقول الديمقراطية، نصرة الضعيف، حماية المبادئ
الفاضلة.
لا يوجد من يقول الاغتصاب، العدوان، سحق الضعيف، الطمع لأن
الرذيلة لا تنتصر إلامتى كان صوتها قوياً،
وصوتها لا يكون قوياً إلا إذا نفخت في بوق الفضيلة.
هذا في حياة الأمم مثله في حياة الأفراد، وهو في القرن
العشرين مثله في القرنالعاشر، ولكنه لم يكن
هكذا في حياة الإنسان القديم.
كانت الفضيلة حينئذٍ حقاً، أو شبيهة بالحق، وكانت صفات
لازمة أو محبوبة ترتاح إلىممارستها النفوس ولا
تستغلها.
القوي الذي يعطف على الشيوخ، والنساء، والأطفال: أقوى،
أحسن، أفضل (حب).
القوي الذي لا يعطف على هؤلاء رديء، قاسٍ (بغض).
القوي الذي لا يحب الجماعة، ويعتزلها، يحب نفسه، أناني
(ازدراء).
اتسع دستور القوة قليلاً واتسع إدراك الجماعة قليلاً.
كان الإنسان يرى ويدرك بغرائزه، وضرورات حياته، فأصبح
يدرك، بقلبه، بوجدانه بشيء منالشريعة الأدبية.
كان يرى قوة، وقوة، فيقيس بينهما ويفاضل (قوي، أقوى).
صار يرى قوة، وقوة وسجيّة، فيقيس بينهما، ويعلل، ويستنتج
(حسن أحسن).
كان يكره الأقوى ويخافه، ويحسده، ويطيعه.
الآن يعظمه، ويحبه، ويتَّبعه.
صار مختاراً بعد أن كان مضطراً.
هذه خطوات الجماعة.
خطوات الفرد الخاصة غير هذه، تختلف كثيراً عندما ينفرد.
يرى الأنانية حقاً إذا كان قوياً.. ويراها باطلاً إذا كان
ضعيفاً.
ما تزال الجماعة أقل دقة، وأسرع إيماناً.. وأعمق استجابة،
من الفرد.
*
* *
تضيق حرية الفرد كلما تقدمت أطوار الجماعة اجتماعياً،
وكلما تكاثرت الروابط
الاجتماعية واتسعت الحدود لحرية الجماعة فيها.
لا يعود من مصلحة الجماعة، إطلاق الحرية للفرد، أو
للأقليات، فتنشأ شرائع وضعية، يضعها الأقوياء، المسيطرون على الجماعة، تكون خلاصة
لشرائعه الأدبية، التي تصبحبالتدريج معتقداً
عاماً.
فالشريعة التي تكون فرائضها الأدبية، فرائض كفاية، أو
فرائض اختيارية، تنقلبقانوناً لا معدى عن
طاعته.
والمحاسن التي كان مصدرها الجسد والقوة، وجاء طور أصبحت
فيه أساساً لشريعة أدبيةيجيء عليها طور آخر،
هو طور التلقي والمزاولة، لا بد أن تكتسب فيه صفة التقاليدالواجبة، ولا بد فيه من ممارستها، ومحاولة تحويلها إلى
خصائص نفسية، وفكرية ثابتة) أخلاق ومعتقدات(
ولسنا نعني طبعاً في كل ما تقدم أن الإنسان في هذه الأطوار
كان يضع الأسماءلمسمياتها على وفاق
ما تشعر به إزاء إدراك معانيها، وشيوع الإحساس التام بها فينفوسنا، إنما نعني أن إعجابه بالقوة وبمحاسنها، وشعوره
الأدبي بمعنويات الحياةوالنفس، كان يقوم
مقام هذه التسميات، ويرمز إلى مسمياتها أو إلى ما يشبهها.
ومن المؤكد أن تطور اللغة في الحياة الأولى لهذا الإنسان،
كان أبطأ كثيراً منتطوراته الاجتماعية
والفكرية، فالشعور والإدراك يسبقان عادة التسميات وألفاظها، تشعر أولاً أو ترى، أو
تعرف، أو تسمى!
ومن المحزن حقاً انقراض الأصول الأولى للغات، فقد كان
وجودها حرياً بأن يوسع آفاقحياتنا الفكرية، وبأن
يحدثنا ألذ الحديث وأشهاه عن تواريخ تلك التطورات القديمةالتي رافقت كفاح الإنسان في أطوار انتقالاته الاجتماعية
والنفسية، والفكرية.
كيف حارب الإنسان؟ كيف كانت همومه؟ كيف فهم السجايا التي
صارت أساس شرائعه الأدبية؟وكيف سماها؟ كيف نشأت
الآداب؟ كيف نشأ الشعر؟ كيف كانت أساليبه وموضوعاته؟ كيف غنىالإنسان؟ كيف تحمس وفاخر؟ كيف تعبد؟ كيف أحَب؟
هذه الحلقات المفقودة، جزء من تقدم شرائعه الأدبية، بل هي
أهم أجزاء هذا التقدمودلائله وهي سبيل
الفهم اليقيني أو ما يقاربه.
*
* *
قبل أن ننتقل إلى تحليل الفضائل نتحدث إليكم قليلاً عن طور
التلقي والمزاولة، وهوالطور الذي يتحول فيه
الشعور بالسجايا والأفكار والشرائع إلى معتقدات لا شعورية أوإلى خصائص نفسية وفكرية ثابتة.
الإنسان الصغير الجديد في الطور الثاني أو الثالث، يتعلم
بسهولة، ما كان يتعلمه جدهالقديم بصعوبة، ويعرف
ما عرف أبوه وأمه وأجداده، فهو يعرف أكثر.
كان الجدّ القديم يتلقى عن الضرورات، وعن الطبيعة، وعن
التجارب، فأصبح الثاني يتلقىعن هذه، ويتلقى عن
الجماعة، ذخائر تجاربها، ومحاسن حياتها، وغرائب اكتشافاتهاومعتقداتها، وفرائضها وأوهامها.
الحياة رخاء، وأمن، فهي متسعة، متعددة السبل.
كان الطفل القديم في الأطوار الأولى يخاف ويساهم بنصيبه في
احتمال قسوة العيشوأعبائه، وهو اليوم
يمرح ويلعب، ولا يحمل عبئاً، إلا ما كان من قبيل التمرينوالمحاكاة حتى يشتد.
عرِف الفكاهة والعبث، كما يفعل الكبار حين يلعبون حول
النار.
الكبار ذوو سجايا، وخبرة، ورحابة فهم، فهو يقلدهم.
يراهم يمثلون الحوادث التي تقع بعيداً، حيث الصيد
والمغامرات، ويقلدون الحيوانات، حركاتها وأصواتها، فيحاكيهم.
التمثيل قديم في حياة الإنسان، الأرجح أنه عرفه بعد أن عرف
النار، وتجمع حولهاللدفء واللعب والحديث.
والرقص فرع من فروع التمثيل، هذا معقول.
رجلٌ لذعته النار، فقفز، وتوثب على رجل واحدة، وأمسك موضع
اللذعة بيده.
هذه مفاجأة، يضحك لها الناس، لأن فيها شيئاً غير الجد
المحض.
إذا قلده أحدهم ضحكوا أكثر.
هذا تمثيل، ثم رقص.
هكذا اتسعت الحياة رويداً.
الناس يمثلون، ويقلدون بعضهم في الجد وفي الهزل، تحبهم
الجماعة.
الإنسان الصغير، يفعل فعلهم بسهولة، لأنه أذكى، طفولته
أوسع مدى من طفولة جده، كذلكالطفل في المدينة
الحافلة، أذكى من نِدّهِ في القرية وفي الريف، وأوسع أفقاً لكثرةما يتوارد عليه من الصور.
يزاول الطفل الشجاعة، العطف، احترام الشيوخ.. الإحسان إلى
الضعفاء، أعمال البطولة، بوحي من نفسه، وبإيحاء من أبويه، وأسرته، ومن الجماعة.
يزاولها على أنها فضائل يتحتم الإيمان بها، وعلى أنها
محاسن وسجايا يتصف بهاالأقوياء الممتازون.
فالفضائل أو بعضها في هذا الطور مزاولة وتقليد، يستحيلان
إلى أخلاق ثابتة، ومشاعر، بعد قليل أو كثير.
والمزاولة أقدر على ترسيخ الفضائل، وتحويلها إلى مشاعر
ثابتة، وأخلاق مغلغلة فيالنفس من أحكام
الضرورات الطارئة والمتكررة.
*
* *
أعتقد أني أسرفت كثيراً في سوق الأمثلة وحشدها، وأظن أنه
لم يعد صعباً أن تسايرجميعاً هذه الطريقة
إلى حدود أبعد.
هذه الحلقات الأولى من السلسلة، أو الدرجات الأولى من
السلم، فلم يبق ما يمنعنا منالتصور.. والتخيل..
والمسايرة.
في وسعنا الآن أن نتصور ما يفعله التقليد، وما تفعله
المحاكاة، وما تفعله ضروراتالطور الجديد،
ومطالبه، في استكمال معاني الفضائل وإقامة حدودها، وفي ترسيخها، وتوليد المحاسن
منها.
*
* *
قلنا إن الغرائز هي مادة التكوين الباطن في الإنسان
والحيوان.
وقلنا إن الضرورات المتصلة بالعيش، وبنداء الحياة الملح،
دفعت الإنسان إلى أن يخرجمن أفقه الضيق، إلى
آفاق أكثر رحابة، خفتت معها أصوات غرائزه، وخفيت، أو تلطفت، علىقدر عرافته في الاكتساب الاجتماعي من
مراحل التطور التي يقطعها.
وقلنا أخيراً إن المزاولة والتقليد أقدر على ترسيخ
السجايا، وتحويلها إلى مشاعر
وأخلاق ثابتة، من أحكام الضرورات.
ونود هنا أن نجري التجربة على الحيوان، لتختبر صحة
افتراضاتنا التي بنيت عليها هذهالنتائج، ونصيبها من
القوة.
فالحيوانات مزودة بإلهام غرائزها إلى حد الجمود، ولكنها قد
تكتسب بالتجارب المكررة، ما يضعف عمل هذه الغرائز، ويحولها، فيهذبها، أو يزيدها
قوة وضراوة.
ومفهوم أن مجال التطور الطبيعي أمام الإنسان، غيره أمام
الحيوان، فنشأة العواطف فيالإنسان، أو ذوبان
غرائزه الأصيلة، وأنانيته الآبدة، لم يكن نتيجة عوامل شعورية، ووليد عوامل ضرورات
حيوية، ثم معنوية، ثم أدبية، لا تخرج في شتى صورها وامتزاجاتهاعن أنها ضرورات، متحولة عن ضرورات.
والحيوانات التي اتصلت أسباب حياتها بحياة الإنسان
الاجتماعي، فقدت بعض غرائزها، أوخفتت أصوات هذه
الغرائز فيها بعامل التدريب والتجربة.
فالكلب والقط يحبان الوطن كالإنسان، ويشعران بقانون أدبي
محدود، لأنهما أكثر علاقةبالإنسان في محيط
حياته الخاصة.
القط يألم للزجر، ويحزن لفقد سيده، ويعلن الحنين إليه،
ويتأدب بدافع شعوره بالعطفعليه، ويفسد بانقطاع
هذا العطف عنه، ويغار من قط يزاحمه على مكانته عند صاحبه.
ويتأثر بالإحسان، والواجب، ويقلد الإنسان في شعوره
بالحماية والفخار والزهو لأنصلته بالإنسان كانت
ولا تزال أوسع نطاقاً، وأقدم عهداً.
وقد ينحط الكلب أو يتشرد، فيستحيل تأثير سجاياه القديمة،
على ما يشبه الأسى العميقوالجفوة الكئيبة.
والحمار – وعلاقتي الأدبية به قديمة جداً – وعفواً-، تضيق
دائرة اتصاله بالإنسان، ولا تتخطى حدودها الضيقة، لذلك كان تطوره التخلقي، أقل
مرتبة من تطور الكلب.
فهل كان هذا هكذا، لأن الحمار أضيق مدى في إدراكه
الحيواني، وأصلب غرائز من الكلب؟أو لأن هناك
استعداداً غريزياً هيَّأ الكلب لأن يكون حارساً ورفيقاً، وللحمار أنيبقى كادحاً؟؟
كلا!!
ولكن خفة جسم الكلب، وقوة صوته المتزنة، ودقة شمه، ومقدرته
على تصوير مؤثراته، وتشكيلها بهذا الصوت، وقلة مُؤنته، وسرعة عَدوه، ساعدته على
الدُّنو من الإنسانكرفيق وحارس، وطبعته
التجارب المكرورة، وشعوره بضرورة إدراكها، بطابعها الخاص.
فيتضح مما تقدم، أن التقدم بغرائز الحيوان وتحويلها إلى
طور الإدراك، والتعقل، ممكن، متى تعلقت وسائل هذه المحاولة بضرورات عيشه أيضاً،
ولكن هذا التقدم لا يتمإلا بعمل التجارب،
وبأن تجيء على يد الإنسان.
فالكلب في الحضارة الراهنة، ينقذ الغرقى، ويتعقب المجرمين
ويُدعَى للشهادةفيالمحاكم، ويعاون الجنود، ويترصّد
الأشقياء، ويخدم العدالة.. والمجال أمامه ما يزالواسعاً جداً للتطور.
وبعض الخيول ترقص على نغمات الموسيقى، رقصاً مدرسياً
موزوناً، عفواً إخوانيالمدرسين وبعض القدرة
العليا في أمريكا وأوروبا تعزف على آلات موسيقية عزفاًدقيقاً.
ولبرنارد شو – الفيلسوف الانكليزي – حمارة ما أشك في أن
لها نصيباً وافراً منالإدراك تخطت به حدود
بنات جنسها وأبنائه كثيراً إن اطرد القياس، وما له لا يطرد.
وكثير من الحيوانات تطرب طرباً هادئاً أو عميقاً، للحداء،
والغناء، والموسيقى فهذايشير إلى علاقتها
القديمة بالفن؟ وإلى أن لها حساً غير حسها الحيواني.حساً وجدانياً مثلاً..
فهذه نتائج التدريب والتهذيب والمزاولة، ووحي ضرورات
العيش، وتأثيرالمشاركةالطويلة في الحيوان. يقابلها في الإنسان
ضعف غرائزه الأولى، وما اقتضاه هذا الضعفمن التكتل الجماعي، وما أدى إليه هذا التكتل من نشاط القوة
التعقلية فيه، وما مهدله هذا التعقل من ضيق
حدود أنانيته، وتحولها إلى غيرية أولية، حتى عرف القانونالأدبي بعامل شعوره العاطفي، وحتى أخذ توسيع مدى هذا
القانون، متابعة لمقتضياتتطوره المستمر.
*
* *
انتهى بنا الكلام إلى العهد الذي قامت به بعض الفضائل،
التي صارت الجماعة إلىالشعور بها،
والاستجابة لأحكامها، وكيف تتولى المزاولة والمحاكاة تحويلها، إلىأخلاق ومشاعر، أو ملكات نفسية، وفكرية.
أما كيف تتناسل الفضائل بعد ذلك وتتزايد، فجوابه عند حياة
الإنسان الاجتماعية، واطراد جزرها ومدها، وعند تقدمه الفكري، واتساع أفقه.
ونظن أن القوة التي يمثلها الأبطال والزعماء، هي التي كانت
ترتجل بعض الصفات التيتغري الجماعات بالحب
والتقديس، وتحبب إليها الطاعة والانقياد والالتفاف، حولمرتجليها، فتحب وتدعي محاسن أو فضائل، وتدعي أضدادها
ونقائضها، معائب أو رذائل.
فالقوة أقدر على الارتجال والوضع، لأنها أوسع مجالاً،
وأوضح غنى، وأقدر علىالاضطلاع بمسؤوليات
ما ترتجل، وأعمق ميلاً إلى توسيع دائرة النفوذ، وإطلاقها.
ولا شك أن الطور الذي حارب فيه الإنسان، أخاه الإنسان (طور
احتكاك الجماعات) هوالطور الذي كان يلد
كثيراً من المعائب والمحاسن، والذي اتسع فيه منطق المقارنةوالوزن والمقابلة، والمبالغة والتهويل.
فالجماعة القاهرة، تلجأ بعد إصابة غرضها الذي ساقها إلى
الحرب إلى أساليب منالمعاملة، تكفل
الدوام والرسوخ لانتصارها، كإطلاق الأسرى، والعفو عن الجناةوالمبالغة في إكرام النساء والشيوخ، والاضطلاع بحماية
الضعفاء لاجتذابهم، واتخاذهممثالاً مغرياً
للمناهضين الأقوياء، وبسط اليد بالعطاء، وفرض قانون العفة.
وما يزال هذا مشاهداً في كثير من أحوال الفتح والاستعمار.
والجماعة المقهورة تعاب بالضعف، وتلفق ضد أفرادها
المتسلطين حكايات يصنعها الوهم، أو يبالغ فيها.
في جاهلية العرب كانت الجماعات المنتشرة، تتنافس للاستهتار
بالقوة، فما يتهيأ لههذا بالغزو، وقوة
الشكيمة فيه، كما يتهيأ بانتشار القالة الحسنة عنها، وبذيوعالمحمدة، فكانت شارة القوة والمتعة للجماعة، أن يكون
أفرادها البارزون، وزعماؤهاالمسيطرون، كرماء
وهابين، وذوي غيرة على الجار، وعطف على الغريب، وإكرام للطارقوالقاصد، وحماية للاجئ المستجير.
وكان هذا التنافس نفسه، أسلوباً من أساليب الغارة والحرب،
ودلالة على اتساع نفوذالمقدرة على الكسب
والإنتاج.
وكانت لكل جماعة صحيفة أو أكثر، تنافح عن سمعتها، وتبالغ
في نسبة الكمال والفضائلإليها، والشاعر هذه
الصحيفة.
وكان هذا كله مظهراً لمذهب الفروسية الذي ساد في ذلك الطور
الهمجي.
*
* *
أردت بهذا التمهيد، الذي تناول أطرافاً من الفروض
والأقوال، وأساليب من التمثيل، والاستدلالات، والأقيسة، أن تقوم الفكرة التجريدية
عن نشأة الفضائل واضحة كل الوضوحفي أذهاننا، ويسرني
أن أشعر بأني وفقت في هذا ولو قليلاً.
وأعترف لكم بأنه لا يؤذيني، أن يعد كثيراً من هذه الفروض
والأمثلة المزجاة خيطاً، وخلطاً، فإن الذي يحاول الإقناع عادة، لا يستقيم له ما
يريد بالحجة والمنطق وحدهما.
ففي الإنسان شيء غير العقل المكين، والعلم الراسخ،
والعقائد الثابتة. فيه الوجدان، وفيه مشابه الإنسان القديم، واستجاباته الخاطفة،
وفيه الضمير الفطري الذي يؤمنبأحكام العقل ومنطقه
قليلاً، ويكفر بهما كثيراً. فيه هذا الحس الداخلي الذي يكونهتاريخ طفولته القائم في دمه، وتاريخ وراثاته الذي يعد
عاملاً له قوته. هذا الحسالذي يتسع فيه أفق
الشعورات المبهمة حتى ما تحده الحدود، ويضيق حتى ما يرى سبيلاًغير سبيله.
وعساني – إن فشلت في اكتساب العقول – لا أفشل في اكتساب
عطف الضمائر والنفوس، وإقناعها، وأي شيء من الفضائل والرذائل. يمكن أن تكون صلته
بالعقل، أوثق من صلاتهبالعواطف والنفوس
والخيالات والضمائر؟ بل أي شيء منها يمكن أن يكون أقدم علاقةبالعقل، أو أدنى قرابة إليه، من الفطرة الأصيلة؟..
*
* *
ينبغي الآن أن نستنتج، أن الفضائل أنانية مهذبة، وأن
الرذائل أنانية عارية.
وأن الفضائل أدل على القوة وانطلاقها، والرذائل أدل على
فتورها وضيقها، وقد كانالجسد فيما مثلنا،
مصدر القوة، أو مظهرها، ومعيار الحكم عليها، في بداءة الحياة.
أما في الأطوار الأكثر حضارة فيكون مظهر القوة مدى
الاستطاعة والمقدرة على ضمانالرغائب.
فالثروة أقدر على تحقيق المطالب والرغبات، وبسط النفوذ، من
قوة الجسد، وقوة الفكر، ومعيار الفضائل والأخلاق في هذا العصر وفي عصور قبله،
القوة بمعناها الجديد (الثروةالنفوذ(فإيمان الناس بالقوة (في
معناها الجديد) إيمان معرفة وتقدير. أما إيمانهم بالفضائلمجردة، فإيمان خيالي أو شعري.
وليس أدل على ذلك، من أن أية فضيلة لا تكون مظهر قوة، لا
يكون الإيمان بها إلاشبيهاً بالكفر
والإنكار.
وأعتقد أنه لا يسع أحداً أن ينكر أن كل فضيلة لا يكون
المتصف بها قوياً، لا تكتسبفي نظر الناس معنى
الفضيلة ونفوذها.
فأنا إذا عطفت على مريض ملقى في الطريق، وواسيته، لا أنال
التقدير يناله رجل بارزفي المجتمع يفعل فعلي.
بل إنا نرى أن بعض المعائب والرذائل يوسع لها العرف العام
صدره، متى كان المتصف بهاقوياً ذا نفوذ.
ولو شئنا أن نذهب هذا المذهب في الاستقراء والمقارنة والتجريد،
لألفينا أن الصراحةفي رجل ممتاز، تعد
نبلاً وعظمة وقوة طبع. وأنها في رجل ضعيف الأثر في تقدير الناستعد تفاهة وغثاثة وثرثرة، وضعفاً عن ضبط
النفس.
والأثرة في عظيم قوي، دلالة على امتياز شعوره بنفسه،
واعتداده بها فهي حق معترف به، ولكنها في إنسان وسط، باطل، وخروج على سنن الحياة
المعروفة، ومألوفاتها المتبعة.
ورقة الجانب والبشاشة، والدعة، وصدق الشعور، والأريحية،
ونبل الاتجاه والإيثار فيرجل فقير، لا تساوي
كلها في ميزان الفهم والإعجاب، ابتسامة فاترة، أو إيماءة مكرهة، من رجل ذي نفوذ،
ولتكن بعد ذلك بارقة كاذبة، لا أمل فيها.
والناس ما يزالون يترنمون بالصدق، ويحضون عليه، ولكنا لا
نجد له أثراً بينهم.
وقد أصبح الكذب، وما ولد من رذائل المكر والخداع
والمداهنة، والتصنع، والمداورة، والرياء، قانون الحياة الاجتماعية.
ونحن نمتدح بصدق الوعد في الرجل المرجو، ولكنا نكره ألا
يعدنا بتحقيق مطالبنا، حتىإن كان تحقيقها غير
ممكن.
والرجل إذا قال هذا غير ممكن كنا له أشد كرهاً.. نحب أن
يعد ولو لم يفِ لأن الصدقفي هذا الموقف تخييب
قاطع للأمل، والوعد الكاذب عزاء، ولو باطل.. إذاً فالكذب يلقىتشجيعاً.
تفطن الناجحون لهذا الضعف، فلا تلقى (للا) أثراً في صلاتهم
بالناس، فلا جرم أناستحالت حياتهم كذباً
مألوفاً ترضاه النفوس، وما يصدق على الكذب، يصدق على رذائلأخرى.
فإذا قال قائل، إن حظ الفضائل أخذ في الإدبار، لم يقل إلا
بعض الحقيقة.. الحقيقةكلها، أن حظ الفضائل
قد أدبر أو زال.
فنظرتنا إلى الفضائل بعد قياسها بهذه الأقيسة الصريحة،
التي مهدنا لها بعدة أمثلة، خليقة بأن تفقد حماسها وحرارتها، وأوشك أن أقول أملها.
وقد بينّا أن بعض الفضائل كانت تقاليد بهيجة، تحولت
بالمزاولة والتشجيع إلى مشاعروأخلاق ثابتة، يوم
كانت الحياة أقل تعقداً، ويوم كانت الجماعة أسرة مكبرة، تتوحدفيها المشاعر والمقاصد، وتقوى بينها
الروابط الطبيعية، أو يوم كان الاتصاف بهاضرورة لتوسيع مدى النفوذ، وبسط سلطان القوة، بين الجماعات
المناورة.
وهذه كرّة الزمان تفقدها سحرها ونفوذها.. شاخت وضعفت، كما
يشيخ ويضعف، كل شيء فيالوجود.
كانت شيئاً جديداً في حياة الجماعات، وشيئاً لامعاً يزيد
روابط التماسك الجماعي، وقانوناً فاتناً يتضمن حماية الضعيف، ومعنى الاعتراف
بقرابته من الجماعة القوية، ويتضمن معنى السمو بالقوة والرجولة.
وكان القانون الأدبي معنى لذيذاً تسرب في روح الجموع فساد
وظهر كما يسود كل مبدأشريف القصد، تستمد
منه الجموع روح الأمل والعزاء والتفاؤل،وتستروح منه نسماتالتساوي مع القوى.
وما زالت الجموع هكذا، تستمد من فهمها الفضائل، ومن
الإيمان العميق بها، روح الأملوالعزاء.. ولو كانت
وهماً خلاباً.
ومن السهل أن نحدد وقع هذه الألفاظ الساحرة في نفوس
الجماعات الأولى:الشفقة، العدالة،
الخير، الثبات، التضحية، الإيثار، العفة، الصدق، متى عرفنا أن كلمات: المساواة، الحرية، الاشتراكية، الحق،
المبدأ، حماية الضعيف، الديمقراطية، تفعل فعلالسحر، في نفوس الملايين وتقودهم إلى التضحية في القرن
العشرين، وتنزل من نفوسهموأفكارهم منزلة
الأحلام البهيجة، وتخدر أعصابهم بصورة ذلك الفردوس الأرضي الذيتزوره القوة –أو الفلسفة.
وبالرغم من أن العقل لا يؤمن بإمكان المساواة والحرية،
المطلقتين، وبالرغم من أنمنطق الحياة يجعل
الحق دائماً في جانب القوة، وبالرغم من أن حماية الضعيف، وضمانحقوقه الإنسانية، ليست أكثر من وهم فعال
تسخر به الجموع، وبالرغم من أن الاشتراكيةحلم لم تحققه سلسلة الجهاد الطويلة في آلاف السنين، فإن
النفوس، ما تزال ترتاح إلىهذه الأوهام الباطلة،
وتحرص على أن تبقى لها.
فهل الفضائل ألفاظ اخترعها القوي ووشاها بالأحلام
والتهاويل لاستغلال الضعفاء؟. أماتيارات الحياة
المتدافعة فإنها تندفع في سيرها تكتسح الضعفاء ومبادئهم وآمالهموأوهامهم وتكتسح الفضائل والأخلاق لا
قانون لها إلا القوة؟؟
وارحمتاه للضعفاء، لماذا لا يتعلمون فن القوة إذاً ليكونوا
أقوياء أو ليتقوا شرالقوة؟..
صحيح أن الإيمان بالفضائل في المعتقدات العامة لا يمكن أن
يموت أثره في النفوس.
وصحيح أن المشاعر والمعتقدات الثابتة في الفضائل تكون أقوى
نواحي القوة في روحالأمة، والجماعة،
والفرد. لكن هذا الإيمان، وهذه المشاعر والمعتقدات أصبحت في نفوسبعض الأفراد والجماعات نقطة ضعف تستغلها
القوة.
كم من المجازر البشرية انقادت الجماعات إليها مأخوذة بوهم
الحق والعدالة، والدفاععن الفضائل
المستباحة؟ والقوة من ورائها لاهية عابثة، تعد الأغلال والأكفان لهذهالجماعات بعد الانتهاء من جهادها؟
وكم استغلت أطماع القوة، مشاعر الجماعات ومعتقداتها، باسم
إقامة موازين الفضيلةوالحق، حتى إذا بلغت
غايتها بهم، أقامت موازين العسف والجور والرذيلة، عارية، مكشوفة…؟
ما ننكر أن تاريخ كل أمة حية لا يخلو من محاولات إصلاح
يقوم بأعبائها فرد، أو أفرادتصح نزعاتهم إلى
الخير، وتصدق جهودهم في الدعوة إليه.. ولكن سرعان ما يبتلعهاالزمن، وتطويها القوة.
ويستحيل أن تتحول تيارات الحياة الجارفة عن مجراها الطبيعي
ليقوم ميزان الفضائلبحقه في قيادة
الحياة، وتسيير دفتها.
ويستحيل أن تصاغ الحياة في قوالبها الأولى، وأن تعود إلى
قوانين الفطرة القديمة، وأن يتقلص ظل التمدن الاجتماعي إلى حدود هذه الفطرة، ليعاد
ترتيب الفضائل والرذائلعلى ما يضمن للحياة
استقرارها وسموها، وفقاً لما يقننه منطق العقل الإنساني البصير!
وها نحن نزن الفضائل – كما هي في واقع الحياة – ونحللها
ونسبر غورها فما نراها إلاألفاظاً براقة،
وخيالاً ساحراً، ومبادئ لامعة، لا يمكن أن يتكون منها روح عاملجماعة من الجماعات أو لأمة من الأمم؛
بعد أن تقدمت الحضارات واندفعت في سبيل القوةوالطغيان؟
ولا نرى الفضائل – فيما تمارس – إلا أنانية راسخة تقوم على
النفع يرتجى، أو علىاللذة تبتغى، أو على
الأمل يطلب، هي وسيلة تحقيقه.
وهنا قد يسأل سائل عن سر إعجابنا بالفضائل؟ والجواب أنه ما
من فضيلة تمارس إلا وفيأطوارها دلالة على
قهر النفس، وكبح غرائزها، وجهاد لمطالب هواها، فلا جرم أن يكونإعجابنا بها، إعجاباً يؤدي معنى الاعتراف
بقيمة شيء نجد صعوبة في اكتسابه، أو نحسهذه الصعوبة في اكتسابه، وما تغلو قيم الأشياء عادة إلا
بمقدار الصعوبة في الحصولعليها، وإلا بمقدار
الحاجة إليها.
والفضائل صعبة ولكن لمن يكون إيمانه بها إيمان تضحية لا
تنظر إلى جزاء وبيتالمتنبي:
لولا المشقة، ساد الناس كلهم .. الجود يفقر، والإقدام قتال
تعليل دقيق لهذا الإعجاب، وإن كان تعليلاً ظاهراً للعجز الشائع عن السيادةوالإقدام.
فالإيمان بالقوة ونفوذها، هو، حقيقة الحياة، وهو قانونها
في القرن العشرين، وفيالقرون الأولى، وفي
أطوار الحياة القديمة البعيدة!
والدعوة إلى الفضائل حلم جميل بالحياة، كما يجب أن تكون،
لا كما هي كائنة، حلم ماتحققه إلا القوة.
فمن يسعه أن يتكهن بأن الاتحاد مصير القوة والفضائل،
والعالم مندفع في سبيل الطغيانوالجحود؟؟..
*
* *
نتقدم الآن إلى تحليل بعض الفضائل وتجريدها، والمقابلة
بينها وبين نقائضها، لنرىصحة قولنا أن الفضائل
أنانية مهذبة، وأن الرذائل أنانية عارية.
فالكرم لا شك، صفة فاضلة، تنطوي فيها صفات تتعدد مسالكها
ودلائلها، وهي ككل صفة، لمتنشأ هكذا كاملة
السمات، بل تدرجت في سلم التطور حتى بلغت غايتها المعروفة.
وقد قلنا إن الإنسان في حياته الأولى، كان يمتحن بعواد من
الجهاد ومفاجآته الطارئة، تتطلب المعونة والنجدة. في هذا الطور قد يزيد من نشاط
الإنسان الكادح، فضل يتخذهيداً على الجماعة،
ولا تزيد من طعامه فضلة. فالطعام يدخر، وفي عدم ادخاره استهدافلمضرة الجوع والفقدان، ولكن النشاط يبذل،
وفي بذله منفعة، تعين على تمرين القوىوحفزها، وتعين على
اتساع وجوه الحيلة، واستمراء لذة الظفر والاكتشاف، ونشوة انتشارالصيت، وهو بعد قرض واجب الأداء على
الجماعة، في الغد الغامض، وضرورة من ضروراتالتكتل لدفع المخاطر، والاستئناس والسلوة، وتقليل هيبة
المخاطر المترصدة له. فالنجدة إذاً أولى
معاني الكرم.
والكرم لم يكن في أول نشأته تضحية وإيثاراً، وغراماً
بالبذل، إنما كان -ولا يزال- دلالة افتخارية على اتساع نفوذ القوي، ومقدرته على مواصلة الجهد
والإنتاج، على أنهلا يتناول إلا
الزيادة، وسبيل تعويضها مجهودة هينة، بعد اتساع رقعة التجربة والسعي، وامتداد
مذاهب الحيلة، وحنكة المزاولة، واتساع الثراء.
ثم هو بعد صفة لازمة لمن تحلهم قوتهم من الجماعة محل
الأبطال والقوّاد، فالكريمأكثر أعواناً، وأبعد
صوتاً، وأعمق أثراً في النفوس، وأرفع منزلة في العيون، ولايزال في الناس من ينزلهم كرمهم منزلة الزعماء المسيطرين.
والكرم فضيلة متعدية، لذلككان الثناء والإقبال
على تمجيدها، أكثر من الثناء والإقبال على تمجيد العفة، مع أنالعفة قهر صارم للنفس، ورمز للقوة، أكثر
مما يكون الكرم الذي هو في معناه، وطبيعةدوافعه، انتفاء للخوف من الفاقة، أو توكيد للمقدرة، أو
استغراق في لذة نفسه، أو سعيوراء مطلب أدبي، يكون
أغلى من المادة المبذولة في نفس الباذل.
والبخل فطرة وشدة، تأخذ بحساب دقيق، وتعطي بحساب أدق، وهو
رمز للخوف، وما يعيبالإنسان أن يخاف بل
يعيبه أن يكون آدمياً. والبخل إن كان رذيلة، فهو رذيلة لازمةإنكانت شراً في ذاتها
فليست شراً على غيرها.
وهو إن دل على قصر الذهن، وفتور حيوية الفكر الطامح وضيق
مدى النفس والخيال، فيمجال المعنويات
المنطلقة، دل على فهم عميق لطبيعة الحياة، وحقيقة الناس، ودخائلسرائره المطوية.
فإن كان الكرم شعراً وحماساً، وخيالاً جميلاً، كان البخل
حكمة وفلسفة وفهماًعميقاً.
والكرم يعطي ليأخذ، والبخل اكتفاء.. وما عاب الناس البخل،
إلا لما فيه من أثر
الأنانية الواضحة، والاعتكاف في حدود الذات، ونحن نراه
أنانية محدودة قانعة، ونرىالكرم أنانية واسعة
جشعة، هما استرقاق النفوس والألسنة، وذيوع الفخار، وتحقيقالمطامع، والاستمتاع باللذة الخفية.
*
* *
والشجاعة ليست خلقاً طبيعياً في الإنسان فما يتصف بها
الناس إلا اضطراراً، أوفراراً من عار، أو
طمعاً في تحقيق غاية، أو منافسة لندّ، أو دفعاً لسبة، أو خطأ فيتقدير نتائج المخاطر.. فبماذا من هذه
الأسباب تستحق أن تدعى فضيلة؟
والجبن في منطق العقل السديد، وليد الخوف، والخوف ليس
منافاة للعقل، ولا للطبيعةالإنسانية، فهو أقوى
غرائز الإنسان، وأداة شعوره بالأخطار، وسبيل تجنبها.
فإذا خاف الجبان مجهولاً، فشأن النفس البصيرة أن تخاف
المجهول، وإذا خافالمجازفة، فإنما يرجح
السلامة والهدوء.
إنما كان الجبن سبة أو عيباً، يوم كانت الدنيا قائمة على
المجازفة، ويوم كانت حرباًشعواء بين الإنسان،
ومطالبه الصارخة، وبين الطبيعة بأهوالها المتراكبة، ومخاوفهاالمطبقة، ويوم كان اقتحام المجهول، ولقاء المخاطر، ضرورة
الفرد، وضرورة الجماعة، لضمان العيش والأمن.
ومن يستطيع أن يزعم إن ضنَّ الحي بروحه، وحرصه على صيانتها
رذيلة إلا في منطق هذاالعرف الآبد؟؟
إن الإنسان إذا تغلب على وحي غريزته، فاستهان بالمخاطر
واستمرأ لذة المجازفة، كانخارجاً من حدود
غريزته وفطرته، داخلاً في حدود مطلب من مطالب الضرورة، أو مطالبالعواطف واندفاعاتها، ولهذا حدوده
الخاصة، فإذا لم تلد هذه الحدود، وإذا لم تلدعواطف الشجاعة واندفاعاتها، حجة يستقيم بها الإقناع في
منطق الجبان، كان ذلك حقاً، وحقاً كله.
نعم إنه ليس من الرشد في عرف نفس اتسع مدى فهمها للحياة
وشعورها بامتداد آفاقها، أنتفقد في سبيل صيانة
النفس، أعز أعلاقها.. ولكن هذا مطلب من مطالب طور خاص، في حياةالإنسان، ونضوج ذهنه، فذاك حيث عد الجبن
رذيلة، حتى بعد أن أدبرت الحياة البدائيةأدبارها، واتسعت حدود الإنسانية بمعنوياتها الحافلة
النازلة من الإنسان منزلة لحمهودمه وأنفس أعلاقه.
والشك في أن الجبن رذيلة، ما يزال قائماً في النفوس، وإلا لماذاجنح الناس إلى توليد فضائل نصفية منه،
دعيت وزناً وتقديراً، وتبصراً واعتدالاً؟
وإلى توليد رذائل نصفية من الشجاعة، دعيت تهوراً وتطرفاً
واندفاعاً؟ أليس لأنالقرابة بينهما
واضحة؟
والحق إنا نرى القرابة بين معظم الفضائل ونقائضها وشيجة،
والتداخل واضحاً.
وما نعتقد التفرد بهذه النظرة، أو السبق إليها، فقد قاد
الشعور بهذا التداخل – فيمانرجح – بعض الفلاسفة
قديماً وحديثاً إلى اعتبار الفضيلة، وسطاً بين رذيلتين، فالكرمعندهم وسط بين رذيلتين، البخل والسرف،
والشجاعة وسط بين رذيلتين، الجبن والتهور.
ولكن ثمة فضائل لا تقبل هذا التقسيم، فبقيت على الشذوذ وسط
ذاتها،فالأمانة، والصدق،
والعفة، وأمثالها، لا تنزل فضيلة منها منزلة وسطاً بين رذيلتين.
فالأمين يكون أميناً كلما بالغ في أمانته، والخائن يكون
خائناً مهما قصر به مدىخيانته، ويكون صادقاً
أو كاذباً، ولا وسط، وللمبالغة بعد، حدودها وصيغها الفكريةواللغوية.
فهل نلام على الشعور بأن العدالة المنطقية، لم تعط الرذائل
والفضائل حقها منالتقدير والفهم
الدقيق؟..
هذه رذيلة الحقد، لماذا عدَّت رذيلة؟
أينقص بالنفس أو ينحدر بها، أن تحقد على من أساء إليها، أو
اغتصب حقاً من حقوقها، حتى ينصرف بغيظها الانتقام والاسترداد؟ أو ينصرف به العفو
بعد الظفر؟
وهذه فضيلة العفو القادر! أليست أبلغ الانتقام وأدهاه،
والانتقام الذي يتضمنالشماتة البليغة والتقريع اللاذع، للضعف المنكر بعد
اعترافه بالهزيمة؟.. أليست عدولالكبرياء عن تشديد
النكير على الجسد، إلى تشديد التنكير على الروح؟ أليست الانتقامالذي يفثأ غليان النفس، ويطفىء أوارها ثم
يستلّ في دهاء سخيمة قلب الضد المندحرويكسر سَورة الشر
فيه؟؟..
فما بين معظم الفضائل والرذائل إذاً من الفروق، ما بين
الظلم والعدل، والحسدوالغبطة وأمثالها.
هذه أضداد ونقائض، وتلك قرابة ومجاورة، وما على هذا الظن
غبار، ما دامت النفسالإنسانية، وطبائعها
الأصيلة، المنبع الذي استمدت منه الفضائل والرذائل خصائصهاوسماتها وإنباضها.
*
* *
والقناعة كانت فضيلة – ولا تزال فضيلة الصابر المحروم –
لأنها رمز الاكتفاء القويعن الناس، والتحكم في
مطالب النفس، وحد طماحها، ترفعاً عن التدلي لالتماسها منهم.
ولكنها اليوم فضيلة خاملة، توشك أن تنقلب رذيلة، في عرف
الحياة الراهنة، ومصطلحاتطورها الحديث، فهي
معدودة في الفقير تسليماً بالعجز عن إدراك الرغائب، وفي الغنىدلالة الاستكفاء.
ولو قلنا إنها في الغني والفقير، دليل سمو النفس وترفعها،
لم نقل حقاً.
ولا يسعنا أن ننكر أن قناعة الفقير والضعيف والعاجز، عزاء
يلتمس لتخفيفوطأة الشعوربالحرمان، عن النفس.
وهذا المتنبي يقول:
كل عفو أتى، بغير اقتدار ..حجة لاجىء إليها اللئام
فالعفو عنده لا يكون إلا من قادر، وهذا مطابق للاصطلاح.
فلماذا لا تكون القناعةفضيلة – إن كانت –
إلا ممن تتوفر فيه المقدرة على تحقيق الأطماع.
والتواضع توكيد للذات، وإيمان عميق بها، ويخطىء من يظنه
إنكاراً للنفس، واعترافاًصادقاً بضعفها، وهو
لهذا لا يكون في أروع صوره، وأكثرها فتنة، إلا إذا جاء دلالةعلى قوة ممتازة.
والكبرياء أنانية واضحة لا تعرف الدهاء والحذق، فهي رذيلة
ظاهرة.
ولو قابلنا بين الإيثار والأثرة ألفينا الإيثار أكثر
جشعاً، وأوضع طمعاً، فالإيثار
نظر حاذق إلى ضمان فائدة الحب والإعجاب في الحاضر، وما
يفيد بهما في المستقبل، والأثرة نظر ضيق إلى ضمان فائدة في الحاضر، تقتصر على
المادة، فهي عارية لا تتستر، فتتيح بوضوحها الفرصة للمقاومة والفهم والحكم الدقيق.
فالمتكبر، والأناني الأثر، أقصر نظراً إلى مصلحتهما،
وتوسيع حدودها.
*
* *
والاعتراف بالنقائص فضيلة دون شك. ولكنها أيضاً فضيلة ذات
مغزى نفعي كالتواضع، فمايعترف إنسان بنقيصة
فيه، إلا وهدفه أن يتصف بالكمال في ناحية أخرى، هي أكبر عندهوأغلى.
والعفة لم تكن رياضة عسيرة للنفس وجهاداً مستمراً
لغرائزها، وقمع شهواتها الملحة، إنما كانت مطلباً من مطالب الحياة الاكتفائية
الحريصة على أن تبقي لها ذخيرتها منالنشاط والقوة، حيث
كانا سلاح الحياة، وأداة صيانتها وإنما كانت دليل الزهد فيمناورة الجماعة، لضرورة الحاجة إلى حمايتها، والاستقرار
فيها.
فهي في هذا القياس صفة لا أثر فيها للترفع الأدبي المختار
عن انتهاك الحرمات.على أنها قد تكون
عجزاً وفتور حيوية!
ومن يرى أن عفة الشيخ في طور كلامه واسترخائه فضيلة، إنما
هي فضيلة السن، وقانونالفتور، وليست فضيلة
القوة والصبر والمغالبة، كما هي في الرجل المشبوب القادر علىتأمين مطالبه.
*
* *
والكذب يقل حيث يقل التزاحم على أسباب العيش، فهو في
القرية، أقل منه في المدينة.
ففي القرية يعيش الناس على الزراعة مثلاً، وعلى العمل
فيها، أو على أسباب محدودةللعيش، فلا مجال
للتنازع، ولا للشعور بالحاجة إلى الرياء والملق. لوضوح استقلالالحياة واكتفائها، فما يكرم الإنسان فيها
طمعاً في ماله، ولا يكذب عليه للاحتيالعلى الزلفى إليه،
ولكن يحب لسجايا الخير فيه، أو يخشى جانبه لقوته البدنية مثلاً، وهذا يدعو إلى
تحاشي سبيله أكثر مما يدعو إلى تملقه والكذب عليه.
لكن الكذب في المدينة العامرة، ضرورة اجتماعية واقتصادية،
تعين على الرواج، وانتعاشحركة التبادل،
والإقناع، فلو ساد الصدق فيها، أصيبت مجالات الحركة والنشاط، بركدة، يتضاعف معها
الشعور بأعباء الحياة وهمومها.
والكذب دليل فقدان الثقة بنفع الصدق، وهو أكثر الرذائل
نسلاً، وأرشقها دخولاً علىالنفوس، وأوسعها
حذقاً.
والنفاق، والغدر، والدهاء… من مواليد الكذب ومركباته.
وقد ضمنت له هذه الكثرة، الشيوع والسيطرة، وضيقت مجال
الصدق حتى اعتبر خشونة، وجهامة، وقلة بصر بالحياة وسذاجة.
*
* *
والصبر والثبات – على أنهما من الصفات الفاضلة، كانا ضرورة
من ضرورات الجهاد للعيش، فما يلجأ الإنسان إليهما إلا وهما ضرورتان، لا رجاء في
درك مراده إلا بهما.وقد يكون معقولاً أن
يزهد الإنسان في بث فكرة أو مبدأ أو إقامة حقيقة، متى أضنكهالجهد، وناء به في هذه السبيل.
لكن الإنسان الساعي لقوت يومه، أو إقامة مأواه، أو مطاردة
فريسته أو دفع خطر داهمعن نفسه، ما يجد بداً
من الصبر والثبات، لأن خيبته هنا لا تقطع عليه لذة فكرية، لايستحيل العيش بفقدانها، بل تقطع عليه أمل نشاطه، وقوام
حياته، ومادة بقائها.
هذا في الأطوار القديمة..
وفي أطوار الارتقاء، يكون الصبر والثبات، ضرورة يمليها
قانون التجارب وقانون الرغبةفي سداد السعي،
والحرص على ألا تفقد النفس مطالبها، وألا تألف الاندحار والخيبة، فتفسد بهما
عقيدتها في قوتها ومضانها، أو عقائد الناس فيها.
والأمانة شأنها هذا الشأن أو ما يقاربه.
فقد كانت – على الأرجح – دليل سيطرة القوي، وندرة مثاله،
ودليل الثقة باستغنائه عنالطمع في أعراض يكثر
مثلها فيما يحرز أو فيما يستطيع.
ولا شك أنها كانت مقصورة على من هيأت لهم قوتهم من امتداد
النفوذ بين الجماعة سبيلالسلطان عليها، فهي
سمة القوي الذي لا تحد حريته وشهواته، إلا قيود قوته وحدودها.
وهي اليوم ضرورة لصيانة السمعة، واستجلاب الثقة والفرق من
اختراق حدود القوانين، والاستهداف للمضرة والانهيار، وجرح العزة والشرف.
ونحسب أنه لو حلت الإباحة والإطلاق محل التحريم، والتقييد
في قوانين الحياةالوضعية، لكانت
الخيانة، واستباحة الحقوق، واحتجان الودائع، أول زلزلة تصاب بهاالبشرية عامة، إلا من عصم الله، وعصم
الإيمان به.
*
* *
قسنا الفضائل والرذائل – أو بعضها على الأصح – بهذا
المقياس الذي لا تقاس بهالأشياء إلا مجردة
عارية، مما أضفت عليها خيالات القرون، والأفكار الذهنيةوالمدرسية.. ونعتقد أنه لم يعد لنا معدى عن الاعتراف بأن
الفضائل في مراميهاالخفية، أنانية
مهذبة، ميزان الربح والخسارة فيها قائم منصوب.
وجملة القول إن معظم الفضائل لا تنتسب إلى أشرف عواطف
الإنسان أو غرائزه؛ بل تنتسبإلى أنانيته، وشعوره
الخفي بالمصلحة.
ولم يكن حكمنا على الفضائل وتجريدها إلا تقديراً دقيقاً،
لأثرها الحقيقي في الحياة، وعلاقاتها بالنفوس.وقد
رأينا أن بعض الرذائل، ألصق بالحياة، وأقرب إلى طبائع النفوس من الفضائل… ويؤلمنا أن تكون المماراة في هذا ضرباً
من العبث.
ونحن لا ننكر أن الفضائل في حقيقة معانيها ومطالبها جهاد
صادق للسمو بالنفوس إلىآفاق من الحرية
والخير، تخرج بها من حدود المادية الجامدة، وترتفع بها عن قوانينهاالترابية ولا ندعي أن الإنسان قدير على
أن يأتي بأشرف ما فيه من خارج نفسه وطبائعه، ولكنه مطالب بأن يحول ما فيه من نزعات
الشر والأنانية إلى أسمى مطالب إدراكه العقليوالوجداني، كما تحول الرياضة العنيفة، لحمه المترهل إلى
عضلات قوية.
*
* *
وقد حللنا بعض الرذائل التي نسميها معائب عقلية أو طبْعية
(كالبخل، والجبنوالكبرياء، والأثرة)
تحليلاً نخشى أن يؤخذ دليلاً على عقيدتنا في رجحانها علىنقائضها، وليس لنا في الحقيقة غرض من هذا التحليل،
والمقابلة إلا الإشارة إلى أنهذه الرذائل أو بعضها
من سنن العقل والطبائع أو من فرائضهما.
ولنا رأي نخالف به الاصطلاح الشائع في الفضائل والرذائل
خلاصته أنا لا نرى صفة منهذه الصفات التي
جرينا في هذا الحديث على تسميتها فضائل ورذائل، ما هو خليق بهذهالتسمية.
وإنما ندعوها محاسن ومعائب فردية يهبط بها العرف أو يعلو،
على وفاق نصيب المتصف بهامن القوة والضعف، أو
على نصيبها من الشيوع والخمول، وأساسها الأنانية والمصلحة.
أما الفضائل التي نراها خليقة بهذه التسمية، فهي التي نزل
بها القرآن ودعا إليها. تلك فضائل، لا يكون
للمتصف بها، والمؤمن بقوانينها، نظر إلى مصلحة أو سمعة.. وإنكان شيء من ذلك فالمثوبة عند الله، والزلفى إليه.
فالكرم فيها إحسان إلى مستحقه، ينزل منزلة الحق المفروض
له، وخروج من سلطان المادةوحدودها في سبيل الله.
والأمانة مبدأ يعامل الأمين به الناس، كأنه يعامل الله.
والصدق ميزان دقيق، لا يستقر فيه الغش والتدليس، ولا يستقر
فيه الحقد والرياء.
والتواضع إنكار للذات وقوّتها، في سبيل إيمانها بقوة الله.
والعفة سمو بالنفس لا تشيل بميزانه خالجة من خوالج الشيطان
والهوى. فإذا انحرفت بهانزوة عارضة من
نزواتها، لجأت إلى التفكير والتوبة والاعتراف، لتتطهر من إثمها.
وهكذا حتى تكون الفضيلة حياء من الله، تتجنب به مواطن
حرماته فلا تأتيها؛ ولو أتاهاالناس جميعاً.
*
* *
وخير لنا أن نحجم عن تحليل بعض الرذائل (التي ندعوها رذائل
روحية) واستجاباتهاالعصبية الظاهرة، فهي
خليقة عندنا بأن تدعى أمراضاً نفسية، أو جسدية، أو عقلية، أوهي مزيج من ثلاثتها.
وإنا لنجد بعض المصابين بأدوائها أصح نظراً إلى الفضيلة،
وأصدق في تقديرها، والإيمان العميق بها، من المتشددين فيها لأن ممارسة هذه الرذائل
تنتهي بمنيمارسونها إلى ألوان
من العناء، والمشقة والمضض، ترهقهم بأعبائها، فهم أصدق نزوعاًإلى التخلص منها، وإن كان الاندحار
نصيبهم -في الأكثر- كلما نازعوا نفوسهم علىالإفلات من قيودها وأغلالها.
فنزوعهم إلى الفضيلة، وظمؤهم المحرق إليها، أشبه بظمأ
السجناء إلى الحرية، والقلقالمضطرب إلى الراحة
والطمأنينة، والمقاربة بين شعور الإنسان الطليق، وشعور الإنسانالمكبوح، بجمال الحرية وفتنتها، تكشف لنا
عن شعور المصابين بهذه الرذائل.
وهي عادة عرض أصحابها باليأس من الخلاص، فذاك حيث يتسمون
بعدم المبالاة، والاستهتارالظاهر، وهما دلالة
اليأس في الشفاء.
فلا غرو أن نرى في بعض المصابين بهذه العاهات النفسية التي
نسميها رذائل؛ قبساًخاطفاً من الشعور
بهدي الضمير، وصدق التأثر، والإحساس بالوخز والمرارة ولا نراهإلاّ نادراً في نفوس المتمسكين بالفضائل
لا تمسك الإيمان الصادق بها، بل تمسك الخوفمما تجر إليه نقائضها وأضدادها، من فقدان أمل، أو مكانة..
وقد يكون تمسك من لا يحسمن نفسه النزوع إلى
هذه النقائض والأضداد.
ولو أن رجلاً ذابت في عينه ونفسه مغريات الرذيلة، وتزايلت
فيه أسباب النزوع إلىمتعاتها السانحة،
فصدف عنها صدوف الواثق بعجزه أو بعجزها عن إثارة رغبته واشتهائه، لما كان خليقاً
بأن تعد فضيلته فضيلة قوة وجهاد في منطق العقل السليم.
فما تكون الفضيلة جديرة بهذه التسمية، إذا كانت إيماناً،
حتى تكون غلبة وانتصاراًوقوة وجهاداً لإغراء
الرذيلة، وكبحاً لميل النفس المسعورة، وحنينها الملحّ إليها.
*
* *
إن كثيراً من الفضائل لا يكون مطلباً خلقياً في البلاد
التي تتسع فيها أسباب الكسب، وتتنوع وسائله، ويتكاثف فيها الاجتماع. فالناس في مثل
هذه البيئة يتسامحون فيطلابها، لأن ضرورات
التكاثف وما تستلزمه، من الاتصال والاشتباك واتساع العلائق، تصرفهم عن التماس
القوانين الأدبية، فيفهمون الحياة على حقيقتها الواقعة، وينشغلونعن النظرة الشعرية المثالية إليها.
فمتى تكلفت الأنظمة بحماية الحرمات الفردية، وبحماية
الحرمات والحقوق، وقام الفردبواجبه القانوني في
صلاته المعينة الحدود بالناس، استوى في القمة، الحليم والأحمق، والعفيف والمستهتر،
والكاذب والصادق، والشجاع والجبان، والأناني والإيثاري، ما دامترذائل إنسان لا تتناول غيره بالأذى
والإساءة.
وليس لنا أن نطمع في تحويل تيارات الحياة، فالحياة لا تخرج
على قوانينها، ولا تتكيفعلى ما يطابق ميولنا،
وإنما الإنسان يكيف حياته ومطالبه على وفاق ضروراتها.
فهل كان انحراف الناس بإيمانهم بالفضائل، إلى هذه الهمود
ضرورة، اقتضاها سير الحياةالعامة، وقوانينها؟؟..
إننا نعترف في ألم بهذه الحقيقة.
يقول الأستاذ العقاد: “ليس بحيِّ الضمير من لا يسمع صوت
ضميره مرة، على أنه لو وُجدذلك الرجل بين الناس،
لكان كمن يعاملهم بصك يتقيد به من جانبه، ولكنهم هم من جانبهملا يتقيدون به”.
كم يلقى العقل، وتلقى النفس الشاعرة، في التسليم بهذه
الحقيقة من مضض وألم؟. أترانانريد من الضعفاء
والموتورين، والعاجزين والفقراء.. أن يؤلفوا جيشاً أعزل لحمايةالفضائل مما جرّت إليه هذه النظرة
العامة؟؟..
أم تراه واجب الناشئين الحائرين؟
أم واجب القوانين التي تعرف كيف تعاقب الرذائل، ولا تعرف
كيف تناصر الفضائل وتثيبهاوتشجعها؟؟..
أم أنه واجب الأقوياء والقادرين، وواجب قادة الأمة وسراتها
المتسلطين على مجاريحياتها، والذين حذقوا
فن القوة فيها؟؟..
كم يلقى الصادق، والصريح، والعادل، والأنوف، والصابر،
والمستحي، والأمين، والرحيممن المشقات، ومن
انزواء الناس عنهم ومن المقاومة الظاهرة والمستورة لخطواتهم؟؟
أفهذا لأن موازين المحاسن والمقابح قد اختلت قوانينها
وتبدلت؟
أم لأن تيارات القوة اختطت لسيرها مجرى أعوج غير مجراها
الطبيعي؟
أم لأن الفضائل أدوات زينة، وشارات تجمل، كل شأنها أن
تستكمل بها، وبشواهدهاالمسرودة، معاني
الترف والنعمة ومطالب الذوق الناعس، فما تصلها بحياة الإنسان، صلةبسلاحه، وعدته، وأفكاره، وعقائده؟؟
أم لأن النفوس عرفتها حلية زائفة، وزخرفاً براقاً، ووهماً
في ألفاظ فهي لا تنزلمنها، ومن الألسنة،
إلا منزلة الشعر الجميل، والخيال البهيج، تنطلق به مناسباتهالسانحة في مجالس الطرب والاسترخاء، ثم لا ورود له بعد
انقضاء دواعيه،وزوالأسبابه؟؟
أرأيتم كيف يتقلص نفوذ الفضائل في هذا الزمن العجيب الذي
اتضحت فيه سبل الحياةوحقائقها، وقلت
مساتير النفس وانكشفت مكنوناتها؟
أرأيتم كيف تقلص في عصور عجيبة قبله، امتطت فيها الرذائل،
غوارب الفضائل تقودهاوتتخذ منها جُنة
تُتقى بها المخاطر، وتُدفع قالة السوء، وتسخر الجموع وتُخمدالفورات..؟
*
* *
بين جزر هذا الحديث ومده، رأيتم الفضائل التي سميتها
محاسن، سلعاً مزجاة يرتفع بهاالميزان تارة ويهبط.
ورأيتموها تجارة يراد بها الغنم، وفخاخاً يصاد بها العاجز
والغافل، وسلاحاً يغتالبه الضعيف، ولهواً
تستمد منه اللذة.
ورأيتم فضائل الدين التي بعث محمد صلى الله عليه وسلم
ليتمم بها مكارم الأخلاق – تضحية
لا ينظر من ورائها إلى غرور الدنيا، وأعراضها الزائلة.. تضحية لا تضمن للمقدمعليها متعة ولا فائدة.. إلا الزلفى إلى
الله، ونِعْمَتْ تجارة لن تبور.. تلك محاسن، وهذه فضائل.
تلك فخاخ يصاد بها حطام الدنيا، أو تسحر أعين الناس.
وهذه وسائل ينال بها رضاء الله، وتُبتغى المثوبة عنده..
تلك محاسن نزل بنا إيماننا بها إلى الحضيض، فكانت شارة
ضعفنا.
وهذه فضائل أقامت مبدأ سامياً فتح القلوب والنفوس قبل أن
يفتتح المدن والممالك، فمايعجزها والله أن تنهض
بهذه الأمة المعروفة التي قعد بها ضعفها وقعدت بها محاسنومعائب بنيها..
فلنلتمسها، ولنمهد المجال لظهورها.. فهي أمل النجاة، وسبب
النهوض وسبيل القوةوالظفر.
إن كل فضيلة من فضائل القرآن تضرب المثل الأعلى الكامل
للقوة وحريتها فآمنوا بهاواطلبوها.
وكل فضيلة من فضائلنا تضرب مثلاً للضعف والتهافت والتمويه،
فأعرضوا عنها، وانبذوها.
وليكن الكريم الوهاب محسناً أنوفاً يأبى أن يأخذ بما يعطي
شيئاً.
وليكن محسناً بصيراً.. يفرق بين الحسنة الواجبة، والمحمدة
الزائفة..
وليكن الشجاع مجاهداً حراً، يغضب للحق، كما يغضب لنفسه،
وليكن الصادق أميناً، يقولكلمته في القانون،
قبل أن يقولها في المجرم.
وليكن المتواضع صادقاً لا طامعاً.
والصابر مختاراً لا مكرهاً..
والإيثاري زاهداً، لا تاجراً..
*
* *
وبعد فهذه حقيقة الفضائل كما تعرفها القوة، لا كما يعرفها
الاصطلاح، وما على كلفاضل إلا أن ينزع من
فضائله نصيب نفسه الترابي فيها، فإذا هي فضائل القرآن التيتصنع للأفراد الصحائف الذهبية في التاريخ.. والتي تبني
الأمم..
ولعل معترضاً يقول: أفلا يقتضي هذا التحول المطلوب، أن
تصاغ الحياة صياغة جديدةتنتزع من النفس
الإنسانية، أنانيتها، وطبائعها، وتبدل غرائزها وميولها الراسخة؟
ونجيب بأن أصحاب هذه الفضائل، كانوا من أوسع الناس أنانية،
وأبعدهم طمعاً وأعمقهمخيالاً.. فما يضحي
الفرد منهم بنفسه في سبيل مبدئه إلا وهو يعتقد أن الموت ختامالحياة الذي لا مفر من لقيانه، وأن خلود هذا المبدأ
وانتصاره إنما هو خلود نفسهفيه.
وما يخرج من سلطان المادة، إلا وللدنيا عنده معنى من
الجمال والحرية – ما تتمتع بهالنفس إلا إن لقيته
بأكبر منه، من داخل نفسها وذات سرائرها.
وما يكبح نفسه عما يشينه في أدل صورها على حب الذات
والذهاب بها في أبعد مذاهبالغلبة والسيطرة.
فهذه الفضائل ترمي إلى توسيع مدى القوة والأنانية وطبائع
النفس، فتكبر فيها الحياةوتمتد حتى تكون مثلاً
أعلى ما تقنع النفس دونه بشيء، ويصغر كل ما في الحياة مما دونهذا المثل، حتى تكون خَطْرَة من خطرات
النفس الأناني، الأناني أغلى من ذلك الكلالذي تنزل عنه راضية لمن كانوا دونها أنانية وطمعاً.
وخليق بنا أن نرى الأمل في مثل هذه الفضائل ضرباً من
الخيال، لولا أن معارض الحياةاليوم غنية بالشواهد
عليها، في أمم لا تعرف أن وراء حدود الحياة الظاهرة، حياةينتهي إليها الجهاد، وتستقر فيها الموازين، فكيف بمن يرون
الحياة الأولى سبيلهم إلىالحياة الكاملة
الصحيحة، ومجال سباقهم الذي يعرضون فيه قواهم وأعمالهم للفوز أوللخسران؟
*
* *
نحن بسبيل الحديث عن الفضائل، ولسنا بسبيل حصرها، وما
نظنها من الخفاء بحيث يكونحصرها ضرورة لازمة..
وللفضائل في رأينا جماع هو الحياء.. والرحمة.. والعدالة..
وقوام هذا الجماع
الحياء.. فالحياء قوة النفس،
وحرية العقل، وميزان الضمير.
والرحمة عدالة النفس، وجمالها، وحسها.
والعدالة رحمة العقل وبصره وسلطانه.
وسنسهب في تحليل الحياء الذي هو قوام الفضائل، أو قوام
جماعها إسهاباً نحرص ألايقودنا إلى التماس
العلاقة بين كل فضيلة من الفضائل وبينه حسبنا أن نجمل الإشارةإلى هذه العلاقة فنقول إن كل صفة فاضلة
مردها إحدى ثلاث صفات من جماع الفضائلأولاً، ومردها الحياء
أخيراً.
والصلة، هنا ليست صلة الجزء بكله، لكنها صلة الفكر المحس،
والوجدان الشاعر، والضميرالمبصر، ولقد أقول إن
الرحمة جمال، فيأخذ السامع بغرابة هذا القول، لأنه عرف الرحمةمعنى، أو شعوراً وعرف الجمال صورة، ولكنه
متى عرف أن الصورة للجمال رمز لما وراءهمن معانيه وخطراته، وأن الألفاظ إشارات مجملة إلى معان
تنزل منزلة اللحم والدم ممنتجول المعاني وراء
نفسه، أدرك أن جمال الرحمة هو الجمال في جملته وحقيقة معناه.
المعروف أن الحياء صفة طبعية مظهره الترفع الأدبي المتطرف
عن الاستجابة لرغائبالنفس، إذا شعرت بأن
في هذه الاستجابة ما يشينها، ولو كان مباحاً يأتيه الناس.
والمعروف أيضاً أنها دلالة الحس المرهف، ووضوح الشعور
بالنقص، أو ضعف الجهازالعصبي، هذا أو ما
يقرب منه في الطب.
*
* *
لا توجد بين الفضائل فضيلة، أو بين المزايا مزية، تعرضت
لما تعرض له الحياء منالامتحان بسوء النظرة
وقصرها، وبالتقدير المختل، والوزن الجزاف. أقصى ما يبلغه منالتقدير، أن يدعي شعوراً بالنقص، أو فرقاً من الشماتة
والتقصير، في الرجل. وأنيعتبر ضابط العفة،
وصمام الأمن في أخلاق المرأة، ودوافعها الطبيعية، حتى بلغ سوءالنظرة إليه أن يعتبره بعض الأساتذة
المعدودين من المفكرين في مصر كمالاً للأنثى، وعيباً للرجال. وأول ما ينزل إليه،
أن يعد دليلاً على ضعف الجهاز العصبي. أما آخرما ينزل إليه، فأن يعتبر أول خطوات البله والعته، وفتور
الحيوية حتى يختلط بالجبنوالخور، وقصر الفكر،
وفقدان الثقة بالنفس. يتلقى بعضنا عن بعض هذه النظرة الفاشيةفي مجال الحياء، ونظرة أخرى مبهمة في مجال النشأة الأولى.
*
* *
هذا صغير يلتهم الطعام في شره -استحِ
يصرخ من شيء يؤلمه -أو يبكي -استحِ
يتكشف عما يجب عندنا ستره -استحِ
يقلب الأثاث أو يكسر شيئاً -استحِ
يربت على ظهر كلب -استح
هذا في البيت.
في الزقاق:
يضرب الكلب -استح
يضرب رفيقه -استح
يغتصب شيئاً منه -استح.
في الكُتَّاب في المدرسة:
يبتسم -استح
تفلت منه ضحكة أو حركة شاذة -استح
يضاحك زميله الكبير أو الصغير -استح
يقصّر في دروسه أو يغيظ الأستاذ -استح
يكذب أو يسب –استح
الصغير يريد بغريزته أن يشعر بوجوده، وبأهميته، ويحب
الحركة لأنه ميال بفطرته إلىالحرية، وإلى الشعور
بها.
يتناول كل شيء بعينه، فيحب أن يتناوله بيده، وأن يعرفه،
وأن يختبره.. الكرسي، الصورة، الصحن، النار، القط.
عندما يشب.. يرى سمر الكبار، وحديثهم، ومزاحهم، وحريتهم،
فيميل إلى المشاركة فيهبحذر وانكماش. (يجلس
في طرف المجلس).. زجر.. نظرات قاسية.. استحِ.
يغني وحده، كما يسمع الكبار يفعلون -استحِ.
إذاً التشبه بالكبار حرية محرمة.. تسع الكبار، ولا تسع
الصغار.
هذا هو الحياء؟
إنه غير عادل، وغير جميل، لا منطق فيه.
هذه عقدة عصبية.
يظلمه الكبير، أخوه، أخته، أستاذه، زميله
يشتكي – يبكي – يعلن غيظه – يتحدث صادقاً منفعلاً.
كذاب – أكبر منك – استحِ.
إذاً الصغير عندما يقول الصدق، يكون كاذباً!
وإذاً الظلم من الكبير (القوي) لا ينافي الحياء.
يشعر بالمرارة، يتعلم الحقد، يتحسر على الحرية، يكره حكم
الكبار (العدالة) ويسألنفسه لماذا لا يستحي
الكبار عندما يضحكون، ويغنون ويمرحون، ولماذا لا يصدقونه، ولماذا يظلمونه؟
لا جواب:
هناك إنهم أكبر منه (أقوى).
إذاً لا يجب أن يستحي إلا الصغير (الضعيف).
الحياء قانون، ولكنه مفروض عليه وحده.
الحق للكبير دائماً، لأنه قوي، وليس للصغير.. لأنه ضعيف.
الصغير لا حق له.
الحرية -الجمال -الغناء -الضحك -الحق -للكبار دائماً لأنهم
أقوياء.
عقدة عصبية..
كنا نقول إن الشعور بالمؤثرات، والمفارقات، في حياة
الإنسان القديم، لا يقتضيالتسمية.. كذلك هو في
حياة الصغير.. معنى وشعور وإدراك.
يكبر، وتكبر هذه العقد العصبية في دمه ونفسه.. كما تكبر
عقد عصبية أخرى لها خطورتهاعلى أعصابه، وعلى
مستقبله الفكري والنفسي. نشأ عن الكبت وسوء التربية.. وانحطاطالبيئة، واختزان مؤثراتها.
وقد تضيع هذه العقد من ذاكرته، ولكنها تبقى في واعيته
الخفية، قوة لا شعوريةمستورة، ولكنها
موجودة تعمل في نفسه وأعصابه، عملها المخيف الهادىء.
في المدرسة..
يتعلم أن الصدق والشجاعة، والكرم، والعفو، والعفة،
والرحمة، والصبر، والحلم، وطائفةكبرى من أمثال هذه
السجايا.. فضائل واجبة.. وتضرب له الأمثلة، في كتب الدينوالأخلاق، والتاريخ، والإنشاء والمطالعة، على هذه الفضائل،
وعلى الخير والبروالتقوى.
إن كان ذكياً رأى أستاذه يكذب، ورأى أمه تكذب على أبيه،
وأباه يكذب على أمه، ورأىأنه لا ينجو من
العقاب المدرسي إلا بالكذب.. ورأى الأستاذ يخاف، ورآه بخيلاً، ورآهلا يرحم، ورآه ضيق الصدر، ورآه عفيفاً في
الظاهر فقط..
التلاميذ يعرفون أسرار أساتذتهم ويكتشفون هناتهم ونقائصهم
أكثر مما يعرفها الرجال.
وإن كان ساذجاً انفعلت نفسه وأفكاره بما يتلقى.. فأخذ نفسه
ببعض الفضائل أخذاً، حتىيرى نفسه شيئاً شاذاً
لا ينطبق على ما حوله.
يتطلعان إلى الحياة، الأول في ذكاء وخبث، والثاني في خجل،
وحيرة، وتردد وانكسار.وينشط كلاهما
بالتدريج، ولكن نشاطاً حيوانياً خطراً.
الكبار يتمتعون بحريتهم، وأفكارهم، وألسنتهم الطليقة،
الشاب يقلدهم.
تتكشف له الحياة عما يمارسون.. يراهم يقولون شيئاً..
ويفعلون ضده.. يستحون فيالظاهر، ولا يستحون
في الباطن، يخافون القانون.. ولا يخافون ضمائرهم، وقوانينهمالأدبية (الفضائل).
هذه عقدة عصبية..
يرى خطيباً يخطب ويتلعثم.
يقول في نفسه، هو لا يحسن الخطابة.
يسمع الناس يقولون.. يستحي!
يدخل إلى مجلس غاص فيرتعد، يعرق. يبتسم الناس، ويسألون
لماذا تستحي؟ يسمعهم يقولون: فلان يستحي كالنساء.
يرى الذين لا يستحون يتصدرون المجالس، والذين يتوقحون،
يسيطرون عليها ولو سيطرةظاهرة، ويضحك الناس
لهم تشجيعاً.
إذاً فالحياء ضعف، كلما قل تأثيره في النفس، كان الإنسان
قوياً..
هذه عقدة عصبية خطرة.
*
* *
في كل ما سقناه من كلام على الحياء اضطراب واضح، فينبغي أن
نستخلص حقيقة النظرةالعامة إليه.
كان معنى الحياء في تربية البيت الأولى، وفي تربية الزقاق
والمدرسة، أنه قوة تحاولأن تجعل الإنسان
متسقاً، مؤدباً، فلا يلتهم الطعام، ولا يصرخ من الألم،ولا يسبنِدَّه أو يعابثه،
ولا يضرب الكلب لأنه ضعيف. ولا يغتصب شيئاً ليس له، ولا يذهببحريته مذهباً يزعج غيره، ومعناه أن يكبح نفسه، ويضبط
قيادها، ويتعالى بها عن مواطنالرَّيب والظِنّة.
ألّا يقصر في الدرس، ألا يكذب، أو يثير الأستاذ، وأن يؤمن
بالفضائل.
معنى الحياء إذاً تربية وقانون..
وهو قانون معقول، ولكنه فقد العدالة، ولم يوزعها بين
الكبار والصغار، فأصبح مراً..
الإنسان القديم كان يقارن ويستنتج.
فالإنسان الجديد أكثر مقارنة، وأدق استنتاجاً.. لذلك تكون
عقدة العصبية أشد خطورة.
*
* *
عندما ينتهي البيت من مهمته، والزقاق من مهمته، وانتهت
المدرسة من مهمتها.. صارتالقيادة للتربية
الاجتماعية.. للقدوة.. للممثلة.. للحوادث.. للواقع المخيف.. للعقدالعصبية.
في الواقع المخيف.. كان الحياء صفة، لا تشرف صاحبها، وصفة
يجب الاستغناء عنها لمنيريد أن يكون قوياً،
يتمتع بمزايا حريته، ويتمتع بإعجاب الناس وتقديرهم، وكان صفةتؤخر.. ولا تقدم.
يتوقح الشاب لأن الناس يتوقحون.. ولأن الوقاحة فيما رأى
وسمع واستنتج قوة، يأخذ فيهذا السبيل.. ينشأ لا
يعرف الرحمة بالناس. لأن الناس لا يعرفون الرحمة به، ولأنه لميعرف الرحمة بنفسه.
وينشأ لا يعرف الجمال والاتساق والاعتدال والتوازن.. لأنه
لم يكن حراً.. وينشأ
منكراً للعدالة، لأنه عرف أن الحق للقوة، ولأنه كان في كل
أدواره مهضوماً.. ويكون
أخيراً بلا ضمير..
الفرد مرآة الأمة.. تنعكس عليها الصور العامة لها.
والأمة مرآة الفرد في أول نشأته.. وهي مثاله الذي ينشأ
عليه.
إذا رأى شجاعة نشأ شجاعاً.
إذا رأى قوة نشأ قوياً.
إذا رأى فضيلة نشأ فاضلاً.
إذا رأى رحمة وصدقاً وعدالة واتساقاً، نشأ رحيماً صادقاً
عادلاً متسقاً.
لكنه إذا رأى في هذه الأمة.. غير ما قرأ في المدرسة.. لم
يكفه أن يكون كأخيه العاميالمغلق، إنما ينقلب
مجرماً خطراً سيأتيكم الحديث عنه.
يرى الفضائل تجارة وخداعاً، وزواجر ليست لها قوة القوانين
المسلحة، فيتاجر، ويخدع، ولا يخاف إلا القانون..
المجرم أيضاً هكذا – لا يخاف إلا القانون!
القوانين لا تربي الأمم.. ولا تربي الأخلاق.. ولا تبني
الحياة.
المدارس تعلم الأخلاق.. ولكنها لا تصنع رجالاً فضلاء.
العقوبات ترد الناس عن الرذائل والنقائص ظاهراً، ولكنها لا
تردُّهم عنها باطناً،
فهي لا تربي الأخلاق، ولا تبني الحياة.
إنما تربيها وتبنيها تربية البيت الأول، وتربية الزقاق
الأولى، إذا استحالتا إلى
مشاعر وعقد عصبية.. وإنما تربيها المدرسة بالقدوة الصحيحة
لا الفاسدة وتربيهاالحياة الاجتماعية
بصداها الفاضل.
وتربية البيت مثله الصحيحة وحريته الفاضلة، لا زواجره.
وتربية الزقاق، أن يكون زقاقاً فاضلاً.
وتربية المدرسة، أن تكون عملاً وإدراكاً وممارسة، لا آلية
فكرية، وقواعد وترديداً..
وتربية الحياة الاجتماعية، أن تكون أفعالاً صالحة تطابق
الأقوال.
هذه كلمتنا في الحياء.. كما يعرفه الناشىء تدريجاً.
وهذه كلمتنا في الحياء.. كما يفهمه الناس.. والأطباء..
الناشىء معذور في مجافاة الحياء.. لأنه الضعف، ولأنه
الشذوذ الذي عرفته عقده.
والناس معذورون في مجافاته لأنهم لا يعرفون عنه إلا ما
عرفته عقدهم العصبية، وإلاما تعرفه حياتهم
العامة.. وسبيلها العوجاء.
والطب معذور لأنه يرى الحياء مظهر ضعف، باطن أو ظاهر في
الجسم..
وهكذا تتضافر على هدم هذه الفضيلة التي قادت الإنسان
الأول، فطرته إليها، في معنىمن معانيها وهو
الرحمة.
وهكذا يفقد الميزان الذي هو جماع الفضائل الصحيحة، أولى
كفتيه، فيصير الحياءضعفاً.. وهو القوة..
وهكذا تفقد الفضائل قوامها.
فهل هذه حقيقة الحياء؟
كلا! فالحياء قوة.. وقوة حرة في أروع المظاهر.. قوة فيها
الرحمة التي هي الجمال.. وفيها
العدالة التي هي الحق.
أنا إنسان مهذب ذكي، لبق، واسع الإدراك والخيال!
هل يكون نصيبي من الشهوات نصيب الرجل العاري من هذه
الصفات؟ كلا!
أنا أحب فأجعل من هذا الحب دنيا تطيف بها ملايين المعاني
والألوان والشهوات.. والأهواء..
وهو يحب حباً جنسياً محدوداً..
أنا أتمنى ألوف الأماني، وأحمل ألوف الأطماع، وتجول في
رأسي غرائب الأحلام.
وهو يتمنى أن يأكل، وأن ينتهج أضيق سبل الحياة (فكراً
وجسداً) هذه سعادته لأنه لايعرف كثيراً ولا يشعر
– الضروري عنده كل شيء..
أنا أعرف كيف أؤثر، وأخدع، وأمثل، وأصل إلى أغراضي من
السبل الآمنة، ومن السبلالخفية، التي لا تثير
الشبهة.. وأعرف كيف أبتسم لمن أبغضه بسمة الحب العميق، والصديق الخالص، لأضربه
الضربة القاضية..
وهو لا يعرف من هذا شيئاً، وإن عرف ففي أضيق الحدود
وأبسطها، وأوضحها للعيان.
جرائم المتعلم الحاذق إذاً، أروع من جرائم الجاهل الساذج.
كان الناس يتحاربون بالسيوف والأجساد، صاروا يتحاربون
بالغازات الخانقة تزهقالأرواح بلا عناء
ويتحاربون بما يشبه السحر.
كانوا يتحاربون على سطح الأرض، صاروا يتحاربون في أعماق
البحار، وفي أجواء الفضاء.
كانوا يفتتحون المدن بالقوة، صاروا يفتتحونها، ويفتتحون
النفوس، والأفكار بتسميمعقائدها (بالدعاية).
كانت الحرب حرب أجساد، صارت حرب أعصاب، وعقول، وأفكار.
ليس هذا هو الفارق بين الأمس واليوم.
إنما هو الفارق بين إنسان الأمس، وإنسان اليوم.
والناس في الأمس لم يكونوا سواء.. وهم اليوم ليسوا سواء..
أنا ذكي. أنت فطري.
أنا ذكي وعاقل. أنت ذكي فقط.
أنا ذكي وعاقل وعالم. أنت ذكي وعاقل فقط.
وهكذا!
تقدم الذكاء، والعقل والعلم.. هزم القوانين المسلحة وهزأ
بها، لأنه أقوى منها.
هذه حرب طاحنة بين القوانين المسلحة، والجمعية البشرية!
ولكن ما حصادها؟.. حصادهاالضعيف الأقل ذكاء.
الأقل علماً..
لا نرى في السجون الأذكياء، ولا العقلاء، ولا الفضلاء..
ولا العلماء ولا الوجهاء.ولا
الأغنياء.
بل نرى الفقراء والضعفاء.. والأغبياء.. والجهلاء – دائماً.
هذه نظرة غريبة – أيها
السادة – (قد تضحككم -وهذا يسرني).
ولعلكم جميعاً تودون أن تقولوا في استنكار عنيف، هذا طبيعي
معقول، فما تمتلىءالسجون بعلية الناس،
بل بسفلتهم.
نعم، هذا طبيعي ومعقول! ولكني لست مخطئاً.
النسيان ليس عيباً، فما يعيبكم أن تنسوا.
نسيتم أن المهذب، الذكي، اللبق، واسع الإدراك، والخيال،
الذي مثلت له بنفسي.. هومجرم أيضاً، بل هو
المجرم الخطر.. لأنه أذكى، وأوسع إدراكاً وخيالاً، وأبعد مطالبومطامع، وأحدَّ شهوات.. هو المجرم
الخطر.. ولكنه قوي.. أقوى من المجرم الذي يضربرجلاً بسكين لنزاع بسيط يقوم بينهما.. ومن المجرم الذي يأكل
ويعيش. أقوى من المجرمالذي يسكر ويترنح في
الطريق على أعين الناس، وعين القانون ومن المجرم الذي يزني، ولا يحذق فن التستر،
فيقع!
المجرم الضعيف الفقير، الأقل ذكاء وحذقاً، يقتنصه القانون
بسهولة أو بصعوبة.
والمجرم الذكي القوي الذي يعرف كيف يضلل القانون، ولا يقتنصه
القانون – هذه هيالحقيقة عارية مجردة!
وأظن أن الفكرة وضحت قليلاً الآن..
إن متاعب الإنسانية بأعباء الرذائل والجريمة، ليست هي
المتاعب التي يسببهاالمجرمالساذج الغبي الذي يقتنصه القانون بسهولة
أو بصعوبة، بل هي المتاعب التي يسببهاالمجرم الذكي المهذب
اللبق، واسع الإدراك والخيال، الذي سميّته أنا..
والذي لا يقتنصه القانون إلا نادراً جداً، لأنه، لا يترك
وراءه أثراً.. هو عقدةالعقد، وسبب متاعب
الأمة التي يكون بينها، وسبب انهيار الأخلاق فيها:
بل هو الذي لا تقوم للأخلاق قائمة إلا إذا اقتنص! هو الذي
يتصدر المجالس، ويقودالأفكار، ويسحر
العيون، ويخدر النفوس.. وينفق المال سخياً، ويشترك في الأنديةوالجمعيات، ويساهم في وضع القوانين،
ويكتب في الصحف، وينظم الشعر، ويعظ ويتولىتربية الناشئين، ولا يترك وراءه دائماً إلا آثار الجد
والرصانة والسلوك الموزون، والسمعة الطيبة.
معنى هذا أن السجون ستمتلىء، وأن الناس كلهم إلا السذج
البلهاء مجرمون هكذا تقولونفي نفوسكم!
أما أنا فأقول كلا، وستقولونها بعدي!
معنى هذا أن القوانين لا تربي الأخلاق، ولا تبني الأمة..
ولا تقتنص المجرم الخطر.
إنما يربيها ويبنيها، ويقتنص مجرمها الخطر، الحياء، لأنه
أقوى أو لأنه القوة..
الحياء الذي جهلناه، وأضعنا أثره، فحسبناه ضعفاً نتنكر له،
وننتزعه انتزاعاً مندماء أبنائنا
وناشئتنا، وهو قانون الفطرة الإنسانية، وقانون قوتها المطلقة.
الحياء الذي هو القوّة والرحمة والعدالة.
اعرفوه وأصيخوا لندائه، فهو الذي يبني الحياة الفاضلة لأنه
قانون ديننا.. وقانونإنسانيتنا.
هو موجود في دمائنا.. هو العقدة العصبية القوية التي ما
تهزمها العقد العصبية إلاإذا تحولت إلى مسلك
عام.. تؤازره الحياة الظاهرة، والحياة المستورة.
يرى المجرم الخطر الذي سميته (أنا) تاجراً ساذجاً، أو
رجلاً غبياً، يمكن أن يفترسه، ويختلس ماله على عين القانون، فيستحي برده ضميره
الذي هو الحياء..
يرى السرقة سهلة ميسورة من سبيل الربا الذي لا يعاقب عليه
القانون إذا كان في ظاهرهاتفاقاً تجارياً، أو
قرضاً إحسانياً، يسجله القانون نفسه.. فيستحي.
تنازعه نفسه ألّايصوم، لا يصلي، وفي وسعه أن يفعل، لأنه يعرف كيف يتستر ويخدعالناس بالصلاة أمامهم وبالتحدث عن
إيمانه، فيستحي.
يستحي أن يكون إيمانه بالناس، أكثر من إيمانه بمعبوده،
وبفرائض دينه.
يرى الضعيف الجائع لا يفرض له القانون على الناس شيئاً،
ولكن يفرض عليه ألا يسرق، ألا تمتد يده إلى أردية الناس، فيتألم ويستحي.
يرى أنه يتمتع بمنصب مرموق، يكون فيه وسيلة لاستغلال
الضعفاء، والعبث بحقوقهم، فيستحي ويتنحى.
يرى العامي الذي لا يعرف شيئاً في الحياة إلا سبيل طعامه،
يراه إنساناً قديماً
آبداً لا يحسن الكلام، ولا يحسن الفهم ولا يحذق الأساليب
المهذبة، فيقول هذا ليسذنبه، ويستحي.
يرى الشاب الناشىء الضعيف. يتعلق بأسباب العيش فتخذله، ولا
من يأخذه بيده فيستحيويرق.
يرى الغلام الهزيل، تكدح عليه أمه الفانية، أو يكدح عليه
أبوه المضعوف. يراه يذهبهدراً، فيتذكر ولده
المتعلم المتنعم المترف، فيستحي ويعطف.
يرى المرأة العجوز، والرجل الهرم، أقعدهما كلال السن،
والحاجة. يراهما يدبان علىالأرض يتلمسان العون
من أبنائهما.. فيستحي.
يرى الفتاة تدفعها الحاجة القاسية دفعاً إلى حيث تساوم على
قوتها بعفافها فيتذكرابنته، أو أخته،
فيستحي..
يرى اليتيم الذي يعيش بين إخوانه الآدميين، وكأنه ليس
منهم، فيستحي.
يرى المرأة الغريرة يستطيع أن يضع لها حبائل الشيطان في
حبائله. يراها مأخوذة به، وما بينها وبينه، إلا أن يقبل عليها بعينه، فيستحي. يرى
هذه القروح الدامية في وجهأمته، فيحسها قروحاً
دامية في ضميره، وقروحاً دامية في نفسه، وقروحاً دامية فيعقله، فيستحي. ألا يكون رجلاً يقوده ضميره، وتقوده نفسه،
ويقوده عقله إلى العملوالبر والإحسان،
صامتاً.
يرى أن أمته لا تكون أمة، ما دام جسدها العام يسيل بالقروح
الدامية فيستحي ألاّيعمل شيئاً.
ويراها نكرة بين الأمم يعصف بها الضعف والجهل، وما هو شر
من الضعف والجهل، فتثور بهنفسه تطلب لها العلم
والقوة والعلو والتمكين.. ويستحي.
يرى أن ثروته ليست من صنع يده، بل من صنع الله الذي أعانه
وجعله عضواً حياً في جسمأمته، ويراها من صنع
هذه الأمة، ومن صميم متاعب أبنائها وكدحهم، ومن صميم حياتهمالجاهدة، ويرى أنه حجر في هذا البنيان الذي لا يكون قائماً
إلا بأن يشد بعضه بعضاًفيستحي أن يقول
“ثروتي -حقي” ويستحي ألا يفعل شيئاً للأمة التي كونته وكونت حقه.
يستحي أن يكون التراب أعدل وأرحم منه.
يستحي أن يكون التراب رحيماً يريح الفقير، والجائع ويضم
العاري والمنكوب والضعيف، وعادلاً يساوي بين عيال الله فقيرهم وغنيهم، وضعيفهم
وقويهم. ألا يكون هو رحيماًعادلاً.
يستحي أن يرى المرأة، أو يرى الرجل، يغالب كلاهما الحاجة،
ويتعفف، ويتحمل الصبر، فلا تبضُّ له بقطرة حتى يقول، أو حتى يسأل، أو حتى يشكو أو
حتى يصرخ، أو حتى يسقطإعياء.. يستحي ألا
يسمع ضميره إلا الأهوال وألا يرى قلبه إلا الدم.
هذا هو القانون الذي يقتنص المجرم الخطر.. ويجعله رجلاً..
وفاضلاً..
وهو القانون الذي يقفل السجون، ويخفف عن الأمة أعباءها،
ويطلق سراحالأغنياء، والجهلاء،
والضعفاء، والفقراء (المجرمين المساكين الذين يقتنصهم القانون بسهولة).
هذا هو الحياء.. الذي هو القوة.
افتحوا عليكم بصائركم، تفتحوها على القوة التي هي من قوة
الله.. من قوة شريعته.. ومن
قوة فطرته.
ومن قوة الأنانية الفاضلة، ومن قوة الضمير الذي هو النفس
اللوّامة، التي أقسم اللهبها في كتابه!..
هذا هو الحياء الذي تنطوي فيه الرحمة، وتنطوي فيه العدالة..
هذه هي القوة التي لم تكن رسالة الدين الإسلامي إلا
محاولة، حكيمة جادة لتربيتها فينفوس المسلمين.
أرادتها تربية، ولم تردها فرضاً.
كانت في حياة محمد صلى الله عليه وسلم، تضحية صادقة إلى
آخر حدود طاقة النفسالإنسانية واحتمالها.
كانت حياء يدفع الناس ألا ينهزموا في مواطن الجهاد.. أمام
الكثرة، وأمام الموتالمحقق.
كانت حياء لا يترك، الغني يأكل، حتى يشبع الضعيف.
وكانت مثلاً أعلى. تضر به قطعة من لحم، كما تضر به قافلة
ضخمة يجلبها عثمانللتجارة، فينفقها
للحياء..
قطعة من لحم تطوف على بيوت الأنصار والمهاجرين مطافها
الطويل حتى تعود إلى مهدهاالأول.. وكانت مثلاً
تضر به شربة ماء يدفعها جريح يعالج سكرات الموت، يستحي أن يشربوهو يسمع أنين أخيه الجريح فيقول حياؤه،
ربما كان أحوج إليها مني، فتدور فيدفعهاجريح إلى جريح حتى تعود إلى دافعها فإذا هو قد مات.. وإذا
هم قد ماتوا..
هذا ما أراده القرآن.. فكان.. وما يريد القرآن مستحيلاً..
إنما يريد الممكن. وهذاهو الحياء الذي تنطوي
فيه الرحمة بجمالها المطلق؛ وتنطوي فيه العدالة بحقها المطلق، لأنه القوة المطلقة.
القانون الذي تحول في دمائنا إلى زواجر لا شعورية، وإلى
مشاعر مغلفة، وإلىعقدعصبية سامية، مات مفهومها، وبقيت قوة
لكنها غامضة مبهمة، وقانوناً لكنه أعمى، ومبدألكنه منكور.!
تجري به كلمة “استح” غامضة مبهمة، متحيرة، ضالة، لا تعرف
سبيلها القويم تارة تصيبهوتارات تخطئه. في
البيت، في الزقاق، في المدرسة، وعلى لسان الأب والأم، والأخوالأخت، والرفيق، والأستاذ، والرجل العابر!
وعلى لسان البنت الخفرة التي ما تحس عرفاً ولا نكراً،
تقولها بدمها الطافر إلىوجهها المحتقن، حمرة
قانية تفاجىء طبيعتها، بشيء تنكره طبيعتها -استحي.
ألا ما أحبها كلمة، ولو كانت غريبة بيننا، ولو كانت
مجهولة، ولو كانت مجفوة، ولوكانت بلا مدلول.. أو
كان مدلولها حائراً ما يهتدي..
هي بقية تراثنا، وقوّتنا، الذي ما فقدناه في دمائنا بعد أن
فقدنا كل شيء.
ذخيرتنا فاعرفوها.. اعرفوها.. ولو لم تعملوا بها.. ورددوها..
فالمعرفة أساس الإيمان..
والتكرار وسيلة الإقناع..
اجعلوها في البيت قوة تعرف سبيلها.
وفي المدرسة معرفة لا زجراً.
وفي الحياة مبدأ وعقيدة وسلاحاً.. لا لعبة..
أيها الخطيب الذي يضلل الضمائر، ويقول ما لا يعتقد – استح.
أيها المتحدث الذي يخدع أخاه، بما يضمر ضده – استح.
أيها البائع الذي يروج سلعته، بالزيف والتمويه – استح.
أيها الكاتب الذي يئد الحق والجمال والقوة ليظهر -استح.
أيها الشاعر الذي يصنع الكذب والباطل والملق في شعره،
فيسجل به عاراً على أمته – استح.
أيها الفاضل الذي يتاجر بفضيلته.. ليقيد بها مالاً وسمعة
وجاهاً – استح.
أيها الكريم الذي يقيم المآدب، ينفق عليها المئات، في مآتم
أمته – استح.
أيها المتعلم الذي يحتقر الأمي والعامي. ليس هذا ذنبهما –
فاستح.
أيها الشاب الذي يمتهن الشيوخ.. كان الإنسان القديم
يحترمهم – فاستح.
أيها الطبيب الذي يعرف لغة المال والجاه، ولا يعرف لغة
الحياء والضمير – استح.
أيها الوطني الكاذب الذي يتنكب سبل الجهاد، ويروغ من
التضحية الصادقة، فيجعلهافلسفة تتعلق بالممكن،
وغير الممكن – استحِ.
أيها الوطني الصادق، إن أعجزك الجهاد لأنك ضعيف، أو لأنك
فقير، فجهادك أن تأخذ بيدالضعيف تواسيه، وبيد
الحائر تهديه، وبيد المصاب تعزيه، وبيد الجاهل تعرفه ما يجهل، وبيد العاثر تنهضه..
وجهادك أن تنفخ في الضمائر حتى تحيا.. فإذا ابتليت بما يبتلىبه المجاهد المضعوف، من سخر يلذعك، أو غمزة تجرح كرامة
نفسك، فقام في رأسك أن هذاواجب الجميع، لا
واجبك وحدك – فاستح.
أيها الرجل الذي لا يرى في المرأة إلا الجسد هي الأم التي
تلد الحياء.. والرحمة..
والعدالة.. والأم التي تلد الرجال، لو اصطنعت على ما
يهيؤها لهذا – فاستحِ.
أيها الأب الذي يكفيه من حبه لابنه أن يبنيه ليعيش لا
ليحيا وأن يبنيه لنفسه
ولأسرته، ولا يبنيه للخير ولأمته – استحِ.
أيها الشاب الذي يتطرى ويذوب حتى يفقد رجولته، اللغد نعت
الإناث استحِ.
أيها الأديب الذي يظن أن ما وهبه الله من إدراك ويقظة، حقه
لا حق الأمة عليه، ولاأمانتها عنده. الأدب
نصيبك من الجهاد فاصدع به، وتصبب عرقاً، للأمة التي ما بلغت بكالرشد على ضعفها، حتى تصببت عرقاً، كن
لنفسك قليلاً.. ولها كثيراً.. واستحِ.
أيها الرجل الذي يسمم عقائد الناشئين وأفكارهم بأفعاله،
وأقواله، هذا عماد قوةالأمة في مستقبلها –
فاستحِ.
أيها الوطني. أنت رجل لا ينسى قضية نفسه وأسرته، فلا
تنسَقضية أمتك ووطنك. اشتغلبها في نفسك، حتى تكون عقدة عصبية، يرثها
ابنك وبنتك – فإذا كانا صغيرين، ولقيارجلاً يضحك في مأتم
أمته، طفر الدم إلى وجناتهما حمرة قانية، وصرخا به – استحِ.
أيها الوطني: لا تحقد على الضعيف إذا كنت قوياً، ولا تحقد
على الضعيف إذا كنتضعيفاً. هو في الأولى
دونك، وفي الثانية ندك.. أنتما قوة فحذار أن تضيع بالانقسام..
كان ابنك الصغير، يضرب الكلب الصغير، فتقول له استحِ.
وكان يضرب نده، فتقول له استحِ.. فاستح أنت من ضعيف يكون
دونك، ومن ضعيف يكونمثلك.. واحقد ما
استطعت على القوي المتكبر، وعلى القوي الظالم.. احقد حتى تكونقوياً فاضلاً، يأخذ حقه فيعدل، أو يأخذ
حقه فيرحم.
أيها الوطني.. المسلمون أمناء بعض.. بنتي وابني أمانة في
يدك وبنتك وابنك أمانة فييدي، فافعل بأمانتي
ما تريد أن أفعل بأمانتك.
وأيها الوطني الذي ليست له أمانة.. لا تكن مجرماً..
إن كنت عقيماً ففي الأمة يتامى.. فيها بنات يفسدن.. وأولاد
يفسدون. يفسدهم الفقروالضعف، وتصلحهم
التربية والإحسان. التبني سنة نبيك، فاجعله فرض حيائك..
وإن كنت أعزب، فما أقول لك تزوج، فإني أعرف أن الزواج
امتحان عنيف للضمير وللرجولةوللطاقة. امتحان قد
لا تستطيع احتماله قوتك.. لأن الناس جعلوه تجارة فما أقول لكتزوج ولكني أقول لك استحِ.
إن كنت مريضاً مرضاً معدياً.. فلا تتزوج، ولا تكن مجرماً..
واستحِ.
إن كنت بحاجة إلى خادم، ولست بحاجة إلى زوجة فاستحِ.
إن كنت لا تعرف في المرأة إلا لغة جسدها، ولغة شهوتك
فاستحِ.
إن كنت لا تستطيع أن تعول زوجتك وتربي ولدك، وتؤدي به
أمانة أمتك وأمانة وطنكفاستحِ.
أيها الأب.. أيها الأخ.. أيها الوالي!
إن كنت لا تريد لفتاتك إلا الفتى ولو لم يكن رجلاً..
فاستحِ.
إن كنت تبيعها لمن يدفع الثمن الذي تحدده فوراً، ويحقق
الشرائط التي تفرضها.. ولوكان مريضاً.. ولو كان
طاعناً في السن.. فاستحِ.
إذا تقدم إليك الرجل.. ووقع في نفسك أنه الرجل، فادفعها
إليه دفعاً. لا تضع فيسبيله عراقيل المهر
الضخم، والمآدب الفخمة، والنفقة المسرفة دع ما فييده، يستعن بهعلى حياته، وحياة
فتاتك وأعنهما ما استطعت. المهر للتحليل، فلا تجعلوه تهويلاً.. إنالله يكره الإسراف.. ويكره الغلو..
والشيطان هذه فِخاخه.. يصطاد بها بناتناوأبناءنا.. الزواج ضرورة الحياة.. وفريضة الدين.. فرائض
الله، تؤدى على التراب، وينوب فيها شيء عن شيء، ينوب فيها الصعيد عن الماء..
والإيماء عن الأداء..وتقومفيها النية الطيبة مقام العمل الصالح..
هذه فرائض الله لا غلو فيها..
فلماذا نجعل الزواج تجارة.. تتم بها الغلبة علينا
للشيطان.. أيها الأب، أيها الأخ، أيها الولي، إذا كنت على شيء مما تتم به الغلبة
للشيطان.. فاستغفر الله واستحِ..
أيها الوطني الذي تدمع عيناه للعظة لا يدمع لها ضميره –
استحِ.
أيها الوطني الذي يدمع للعظة ضميره، ولا يفعل شيئاً..
استحِ.
أيها الوطني الذي لا يفرق بين كلمة الحق يرسلها الضمير
ناراً، وكلمة الحق يرسلهااللسان لهواً استحِ.
أيها الوطني الذي يسمع بأذنه، ويرى بعينه، ولا يسمع
بضميره، ويرى بحيائه -استحِ.
أيها الوطني إذا هممت أن تؤذي ضعيفاً خرق قانونك، أو قصر..
فاذكر من يعول.. واذكرأن الفقر يعلم الناس
العثار.. استح!
أيتها المدْرَسة التي تدفع إلى الحياة شباباً حائراً لا
يعرف سبيله في الحياة -استح.
أيتها المدرَسة التي تخرج متعلمين، لا مؤمنين، وقوالين، لا
فعالين، وتخرج ذكاء، ولاتخرج حياء، وتخرج
أجساداً، ولا تخرج رجولة وقوة وطنية – استح.
وأيتها الأمة التي لا تبني مدرسة تصنع الرجال الأقوياء
يقيمون مجد الوطن – استح.
وأيها المتعلم المترفع عن غشيان معترك الحياة، كما يغشاه
الأمي والعامي، يعملكلاهما بنفسه، وبيده،
وبجسمه، العمل شرف وقوة ورجولة فاستحِ.
ما نظننا الآن وقد طال بنا الحديث، بحاجة إلى تحليل الرحمة
والعدالة.. بعد تحليلناالحياء الذي هو القوة.
الحياء والرحمة والعدالة، تنطوي معانيها في معانيها فتكون
المعنى الأسمى، كما تنطويأجزاء الجمال في
أجزائه، فتكون الجمال.
ونجمل لكم القول في معنى الحياء.. الذي هو القوة.. والذي
هو قوام الفضائل..
معنى الحياء في الرجل أنه الرجل الذي لا يقتنصه القانون،
ولا تقتنصه القوة ولكنيقتنصه ضميره ويغلبه
حياؤه..
ومعناه في المرأة أنها المرأة تهزم الشيطان، وتطرد المجرم
الخطر، وتجعل من جسدهاحرماً لا يتدنس وفيها
حياة.. ما دامت لها طاقة!
فإن كانت جاهلة، أو محتاجة، أو ضعيفة، فذلك ذنب الأمة التي
لا يكون فيها رجال – وإنكانت طائشة، بها مس
من طبيعة الشيطان فيها، فذلك ذنب الرجل الذي يراها جسداً..
فتنقلب به حيواناً بقرنين.. وبنفسها حيوان لا يستحي.
فليكن الحياء، شعار الضمائر في هذه الأمة، وشعار حياتنا،
وشعار الفضائل فيها..
وليكن أساس تربية المنزل والزقاق، والمدرسة والحياة..
عودوا الآن إلى كلمة الأستاذ العقاد “ليس بحي الضمير من لا
يسمع صوت ضميره مرة” واجعلوها: ليس رجلاً
ذا ضمير، من لا يسمع صوت حيائه دائماً.
قال محمد صلى الله عليه وسلم: الحياء والإيمان مقرونان
فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر. وقال: لكل دين خلق.
وخلق الإسلام الحياء. وقال: إن مما أدرك الناس من كلام النبوةالأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
خاطبنا الضمائر والنفوس هذا الخطاب الشعري الذي نرجو أن
يكون مؤثراً وأن يكونتفصيلاً لنظرتنا إلى
الحياء، وعلينا الآن أن نسأل كيف نستفيد من هذه القوة المذخورةفي دمائنا، وكيف نجعلها أساساً نبني عليه
تربيتنا الفاضلة؟
وهذا في الواقع لبُّ الحديث وخلاصته، والنقطة التي يجب أن
تبقى مداراً لجهاد أقلامقوية من أدبائنا
وشعرائنا، ومثاراً للتوليد، والقول، والتفكير الدائم.
وقد طال القول، وهذا ما يدفعنا إلى اقتضابه حتى تحين فرصة
لدراسات خاصة، تعطي حكمالاستقلال والتفرغ.
لا تحيا أمة إلا بالتربية الصالحة، وما نراه من الفروق بين
الأمم الناهضة إنمامردّه تفاوت أساليبها في التربية.
وقد تماثل أمة أمة في قوتها الظاهرة، ولكن الغلبة تكون
دائماً لأقواهما خلقاً.
وتفوّق السياسة الإنجليزية ليس مردّه القوة الحربية، ولا
امتياز الذكاء والإدراك، ولا قوة النفوذ، وامتداد السلطة وارتفاع ميزان الثروة،
لأن هذه النتائج ضمنتها قوةالخلق في الفرد
الإنكليزي.
ولقد كانت فرنسا، وما تزال أقوى ذهنية، وأحد شعوراً، ولكن
اتجاه المزاج الإفرنسي، كنتيجة لأسلوب التربية الغالب في فرنسا جعل الفرنسي، دون
الإنجليزي، في متانةالخلق، وصدق الاتجاه،
وقوة العزيمة، وضبط النفس.
والإجماع عام على أن أية نهضة لا تقوم على قوة خلقية في أمة،
إنما تكون نهضة مقضياًعليها بالانهيار
والتحير..
واتجاه الأمم في إطلاق الحرية لتربية الطفل، واتخاذها
سياسة لا تنزل المنزلةالثانية من سياسة
الشعب العامة، دليل على صحة هذا القول..
فالطفل في البلاد الناهضة حقاً، يعتبر رجلاً صغيراً بين
أهله، يعامل معاملة الرجل، ويعطى مميزاته، ومطالبه، وهو عضو في الأسرة، له محله
الخاص، وعلى المائدة موضعهالخاص، وحريته
التامة، لا يكتم عنه شئ، ولا يلزم باتباع أساليب وآداب لا يتبعهاالكبار أنفسهم.. ولا يقسر على اتباع، ما
يعرف أن السير عليه في مستقبله غير ممكن، فإذا قصد الأهل دور السينما، والمتنزهات
لم يحرموه هذا الحق، وإذا كانوا يمارسونألواناً من اللهو البريء، لم يحجروا عليه ممارستها، وإذا
كان يلقنونه الرحمةوالعدالة والاتساق
والأدب، كانوا في كل تصرفاتهم أمامه رحماء عادلين، متسقين، مؤدبين، وإذا أطلقوا
لأنفسهم عنان الحرية في شيء لم يمنعوه أن يأتيه.
فالطفل جزء من المجتمع الصغير في بيته، ومن المجتمع الكبير
في مدرسته، فهو لا يشعرأنه صغير، أو ضعيف،
أو مقيد الحرية أو مهضوم.
وخطؤه فرصة تنتهز للتفاهم معه، والنصيحة له، وإرشاده، لا
لزجره وازدرائه وكبته، والتربية في المدارس في أكثر مراحلها، توجيه وليست قيادة
وتحتيماً. والمدارس تفرحبالطفل الشاذ، لأنها
تعرف أنه سيكون رجلاً من نمط خاص، فهي تعنى بتهذيب هذا الشذوذفيه وتوجيهه، ولا تقاومه أو تقسره.
وإذا كان وجود الكبير بين الصغار تقييداً لهم، وحجراً على
حريتهم، فإن وجود الطفلبين أهله، حري بأن يكون
تقييداً لهم، يحملهم على أن يسلكوا أحسن السلوك وأدقه، مراعاة لما يجب أن تقع عليه
عينه من صور الكمال والجمال.
فلو قلنا للطفل عندما يضرب كلباً، استح، وشرحنا له أن
الكلب ضعيف لا يستطيع الشكوى، ولا الدفاع عن نفسه، وأنه وديع ولا يؤذي، وتظاهرنا
بالحزن والرثاء على هذا الكلب، وأوجبنا على الطفل أن يقدم له ترضية من طعام،
واتجهنا هذا الاتجاه في كل ما يشبههذه الحادثة، لكانت
عقدة الطفل العصبية، عقدة نبيلة، تجعله يشعر بالقوة وبقانونحريتها. نحن نخطىء كثيراً عندما نظن أن الأطفال في سني حياتهم
الأولى لا يعرفون، ولايدركون.
إني أعتقد أن أحسن مبادىء التربية، وأسوأها، لا ترسخ في دم
الطفل ووجدانهوعقلهالباطن، بقدر ما ترسخ في العشرة الأولى
من تاريخ نشأته.
وإذا كنا نعرف خطر تسميم عقل الشاب، بالمعلومات والمبادىء
الفاسدة في الخامسة عشرة، أو العشرين من عمره، فيجب أن تكون أكثر تقديراً، لما
يسمم دمه، ويكون عقده العصبيةفي طور مراهقته
الفكرية.
والملوك والزعماء، عندما يريدون تنشئة أبنائهم على أخلاق
وميول خاصة، يطلقون لهمحرياتهم، ويحيطونهم
بما يطبع نفوسهم وأفكارهم على ما يراد إعداده له من حياةوتقاليد.
فالذي يراد له أن يكون كريماً يجعلون له بيتاً، وحاشية
تأتمر بأمره وخيولاً مطهمة.. وقصاداً،
ومآدب – ويكون هو في أثناء هذه الحياة جاهلاً معانيها كل الجهل، فيالظاهر، ولكن دمه ينطبع عليها بالإيحاء
والممارسة.
والذين يريدون الخيول على أن تحذق أساليب خاصة من السير
والحركة والنشاط الظاهروالفراهة، يأخذونها
بأنواع التدريب والتمرين، ويبذلون في هذا من الجهد، ودوامالملاحظة والعناية كثيراً، ويرسخون فيها كلمات، ونداءات
خاصة، وإشارات، تتأثر بهامع طول التجربة، وهذا
يكون عندهم ضرورياً لضمان هذا المطلب.
ومن الغريب حقاً أن يهمل الطفل، ويكبت، ويعامل كما يعامل
حيوان مغلق لا يحس ولايدرك، فإذا كانت بعض
الحيوانات، تستفزها كلمات وإرشادات، عودت على الاستجابة لها، فكيف يهمل الطفل الذي
يراد له أن يكون رجلاً مؤدباً قوياً حراً، يضطلع بمسؤولياتبيته، ووطنه في المستقبل؟
إننا نرى صلات الأمهات والآباء في الأمم الراقية،
بأبنائهم، صلات ودية عميقة، تشبهأن تكون صداقة
وارتباطاً في معظم أدوار النشأة، ونراها عندنا صلات تشملها القسوةوالجمود والإهمال والفوضى، على اعتبار
أنها تربية وحدود تقتضيها فوارق السنوالإدراك، والمقام.
فإذا ترك الطفل لنفسه، شعر بغربته في هذا المحيط، وتعلق
بالزقاق أو بالخدم، فنشأنشأة شاذة مضطربة،
تكون شر أساس لحياته المدرسية، فإذا كانت هذه مضطربة شاذة خرجإلى معترك الحياة، حيواناً له مظهر
الإنسان..
حدثني صديق كان يتلقى الطيران على يد أستاذ إنجليزي، قال
كان الإنجليزي يشرح كيفيةاستعمال البراشوت
(مظلة النجاة) قائلاً:
عندما تفشل في ضبط طيارتك وهي هابطة، تلقي بنفسك في
الهواء، وتحل في اتزان، أربطةالمظلة، فلا تلبث أن
تمتلىء بالهواء، وتقلك، فبادرته سائلاً.. وإذا فشلت المظلة، فأخذ الإنجليزي بغرابة
هذا السؤال، وقال بلا روية، وبلهجة عنيفة.. يستحيل أن تفشل..
إنها مصنوعة في إنجلترا، فهذه عقدة عصبية لهذا الإنجليزي،
تعطينا فكرة واضحة عنتشبع نفسه، ودمه،
بعظمة مصنوعات إنجلترا، ودقتها، واستحالة احتمال فشلها، في أداءمهماتها، ولو كانت فكرة واضحة لوسعه أن
يتصور أن في الدنيا مظلات غير إنجليزيةيحتمل أن تفشل.. إذا
كان الفشل لمظلات إنجلترا مستحيلاً!
هي نادرة يصح أن تكون دليلاً على جمود طبع الإنجليزي، وضيق
مدى فكره، ولكنهااستجابة خاطفة، تشير
إلى إحكام العقد العصبية الأولى أيضاً..
لا يستحيل أيها السادة أن يعرف الطفل من حياته المنزلية،
قوانين العدالة، والرجولة، والحرية، والوطنية، والجمال، والعواطف، والجندية،
والموسيقى، والرياضة، والاتساق، والكرم، والشجاعة، والرحمة.. متى عرفنا كيف تستغل
قوة الحياء فيه هذه القوة التينفسد بها حريته،
ونبلبل اتجاهاته، ونكبت بها نزعاته المتطلعة، وتقضي على نشاطهالمأمول، بدل أن نجعلها قانون القوة فيه،
وقانون الحس والشعور والغيرة، وتربيةالضمير.
مع أن الإنجليز اليوم يضربون أعلى المثل في نظام تربيتهم
المدرسية، فإنهم قليلوالثقة بهذه المدارس،
فهم لا يدفعون إليها الطفل إلا بعد أن يطبعوا نفسه بطابعالرجولة، ووثائق الخلق، ويقيموا عليه من ضميره وتقاليده
الراسخة في دمه حارساًيقظاً قوياً.
وقد أصبح كل باحث في التربية تقريباً، يعتقد أنه لا شيء
يعادل في الأهمية السنينالأولى من حياة
الطفل، فهي التي تكون مركز القيادة الوجدانية والجسدية والفكريةفيه، ويعتقد بعض علماء النفس، أن الطفل
في نهاية سنته الثانية، يكون قد أتم شكلقالبه المستقبل، فلو توسعنا قليلاً بهذه النظرية إلى حد
الرابعة، فما هي طائلةالعقاب المعنوي الذي
تتعرض له أسرة لا تعرف إلا أن الطفل في الرابعة أشبه بحيوان لايعي ما حوله؟..
ولم تلتقط هذه الصور الحساسة مما يدور حولها؟ وكم تفعل
سيطرة الآباء والأمهات، فيالقضاء على القوة
الطبيعية في الطفل، بهذه الحيرة العمياء لا تعرف سبيلها.
إذا كان الأطباء يعدون من المسائل الكبيرة الخطر في حياة
الطفل الجسدية، مسائلالتهوية، والبكاء،
والغذاء والنوم، والملابس، والأمراض المعدية، فإننا نرى أنها تقلخطراً عن مسائل صحة العقل، والعقد
العصبية، والعادات الوجدانية.
إننا نرى أمماً لم يمنعها فقدان النظام الصحي من تكوين
حضارتها، ولكننا لا نرى أمةتفقد التربية النفسية
والفكرية، بقديرة على أن تقيم حضارة تسلكها في عداد الأحياءالحقيقيين. ومن سوء الحظ أن مدارسنا – على ندرتها – لا
تزال تتبع الطرق القائمة علىالكبت والقمع، وسوء
استغلال قوى الطلبة وتبديدها، إما بسوء أساليب الدراسة، أوبدراسة مطولات تثقل الذاكرة، وتشوش الفكر، أو بتدريس مناهج
أجنبية، لم تُبن علىطاقة الطالب عندنا،
ولم ينظر فيها إلى المقومات الذهنية والنفسية التي يجب أن تكونشخصيتنا الخاصة كأمة مستقلة.
إن العيوب التي تتخبط فيها مدارسنا يرجع معظمها إلى جهل
أساتذتها علم التربية، وإلىعدم وجود قيادة خبيرة
تبني مطالب التربية وفروضها على دراسة دقيقة عامةلطاقة الفكروالذكاء، ومقوماتها
الذهنية، والنفسية، وإن كانت الحركة التعليمية الأخيرة تعد ثورةبالنسبة إلى الماضي.
ولو استقصينا هذه العيوب لما رأينا إزاءها حسنة واحدة.
وحسبنا دليلاً على هذا، أن الدراسة عندنا لا تزال قائمة
على حشو الذهن بالمعلوماتوالقواعد، وعلى إرهاق
طاقة الطالب، وكبت نزعاته النفسية والوجدانية..
وها نحن نرى آثار هذه العيوب، في انمحاء آثار الشخصية من
جميع مَنْ تخرجهم المدارسوفي كلال أذهانهم
وأعصابهم، وفتور حيويتهم الفكرية، فلا نكاد نجد أثراً لنشاطالفتوة في نفوس أبنائنا.
فالغلام عندنا مطبوع بطابع الكهل، والشاب مطبوع بطابع
الشيخ الهرم.
إننا نرى آثار القمع ظاهرة فيما يلوح على أبنائنا من أعراض
الحكمة والفلسفة
الخامدة، فالشاب قصير النظر، فاتر الطموح، لا يتطلع إلى
غير أن ينال عيشه، ويتجنبميادين النشاط
والحرية والاستقلال.
إن مسألة اختيار الأستاذ والمربي، لم تعد من المسائل
الثانوية بالنسبة للتربية العامة، وإذا كانت طبيعة حياتنا قد أفقدتنا الأب والأم
الرشيدين، فلا أقل من أنتعوضنا التربية
المدرسية أساتذة يقودوننا بحكمة وخبرة، ليعدلوا ما فينا من اعوجاج.
يقول الأستاذ الألماني ليبنتز “سلمني قياد التربية، وأنا
ضمين لك أن أغير وجهأوروبا قبل قرن واحد من الزمن”.
فمن الخطأ أن تعطى مقادة التربية العامة، لأناس لا همّ لهم
إلاّ تلاوة المقرراتالمطولة والمقررات
الجامدة ليعيدها الطالب حفظاً وتسميعاً..
إن سياسة التربية يجب أن تنزل المنزلة الأولى، من حياة
الأمة التي يراد لها التقدم، وتبتغي لها الحياة.
عندما أرادت انجلترا تكوين فكرة صحيحة عن المبادئ المثلى
للتعليم والتربية، أسندتهذا العمل إلى أكفأ
رجالها، من ساسة، وأدباء، ونقاد، وفلاسفة، وعلماء، ورياضيين، وفنانين، وصناع وكانت
النتيجة أن يقدم لها القرار في عشرين مجلداً ضخماً..
ففي أي عدد من الأوراق يوضع القرار الذي تستند عليه
التربية المدرسية عندنا؟ لهذهالأمة؟ وفي يد أية
جماعة توضع دفة التربية العامة لهذه الأمة؟..
أليس من العار أن تكون مدارسنا، معامل تفريخ، كل غايتها أن
تدفع عدداً من حملةالشهادات، لا يعرفون
فناً تجريبياً، ولا علماً عملياً، ولا صناعات يدوية، تفتح فيالحياة ميادين نشاط جديدة، غير ميدان “الوظيفة، والمكتب
والديوان”.
أليس من العار أن ينال الكتاب المدرسي من عناية القائمين
بقيادة التربية، ما لاينال عشره الطالب،
وذكاؤه، وأعصابه وطاقته، وسلوكه، ونفسياته واتجاهاته الطبيعية، وحريته.. ومستقبله؟..
أليس من الخطأ القاتل.. ألا يعبأ قادة التربية بتغيير
القوالب والأوضاع بعد أن
تغير، وتغيرت مطالبه، وبعد أن كشفت الفنون، والعلوم،
والبحوث، والتجاريب الدقيقة عننفس الناشئ، وعينت
الاتجاهات التعليمية التي تجعله رجلاً وإنساناً عظيماً، وفعالاً، وقوة؟..
مما يدعو إلى الأسف حقاً أن الباحث في الفضائل والرذائل لا
يتاح له الوصول إلىحقيقة قيمتها في
الواقع إلا متى طالع الناس بهذه الصور الشاحبةالمرعبة، كأنما همهأن يعرض شر ما في الحياة.
على أن غاية المفكر والأديب، يجب أن تكون دعوة إلى اكتشاف
مسرات الحياة ومحاسنها، لأن النظرة السلبية إلى الحياة، دليل الفتور وضيق مدى
الخيال.
فإذا آنس الناس منا هذا التجهم للفضائل، فليعلموا أنه ليس
تجهم الكفران والإباحةوالإطلاق، إنما هو
تجهم الشعور بالخيبة والإخفاق، وتجهم من لا يرى بداً من الاعترافباختلال المعتقدات التي تقود حياة الأمة
والناشئين في طريق غير طريق الحياة المثلى.
إن كثيراً من مفكري الغرب وقادة الفكر فيه، يفرقون من
اختلال التوازن بين قوانينالأخلاق والفضائل
التي كانت خلاصة جهاد العقول، في تاريخ الإنسانية الطويل، وبينسير الحياة العام، ويهولهم هذا التنافر
الظاهر بينهما. ويدركون أن التربية المدرسيةالسامية تذهب ضحيته، ويعرفون أن النظرة العامة إلى الفضائل
لم يبق لها من القوةوالتماسك، ما يدع
مجالاً للأمل في مستقبلها.
ولكنهم لا يعرفون طريقة لعلاج هذه الحالة إلا طريقة الوعظ،
والإنحاء باللوموالتقريع، على من
يكشفون الستار عن حقائق هذه الفضائل التي تتعبد بها الأفكار هذاالتعبد الشعري الفاتر.
ونعتقد أن علماء التربية البدنية وقادتها، أفادوا الفضائل
أضعاف ما أفادها هؤلاءالخطباء الذين
ينتهزون الفرص لإلقاء الكلمات الغامضة المطلقة الشعرية عن أحلامهمبالفضيلة، والتشريح والتشخيص، كانا دعوة
موفقة إلى بث روح العفة، والاعتدال فيالناس، ولما يكتب
النجاح للمواعظ والتعليم والزواجر.
هناك طريقة لتربية القوة، وتربية الفضائل ظهر نجاحها
للعيون، هي طريقة الصراحةوالتجريد، والتربية
القائمة على العمل والممارسة، لا على العظة وإثقال الذاكرةوطحنها، وإذا صعب علينا أن نخضع الناس لسلطان ألفاظ لم يبق
لمدلولاتها صدى فيحياتهم العامة، فإن
الصراحة والاعتراف هما سبيلإعداد النفوس للإصغاء
إلى أصواتالضمير والمصلحة.
لم يعد من مصلحة الحياة أن تكون النظرة إليها نظرة ارتياب
وقلق ومن الحماقة أن ينزلالنواح منزلة الإصلاح
والجد والقوة.
فمن لا يرى أن التسليم بواقع الحياة، والتقدم لمجابهة
قوانينها الصارمة، وحقائقهاالعارية، أمر لا بد
منه لناشئة بلاد يراد لها الحياة؟..
فالتكتم والتستر على خلل بعض القواعد السائدة، والحقائق
والتقاليد الموروثة وضعفها، جريمة لا يغتفرها العقل الطامع، لأنها تجر إلى الفشل
والحيرة والفناء.
وليس لنا أن نفرق من مواجهة الحقائق، فمن المتوقع أن يكون
مستقبل كثيرمن الحقائقالراسخة، والتقاليد المتحجرة والأوضاع
المتصلبة، قاضياً عليها بالزوال.
ولا خسران في هذا للحياة، ولا بوار لخير ما فيها، فهذه
نواميسها، أن على من يريدالبقاء والنجاح أن
يتذرع بالقوة، وأن ينظر إلى الحياة بعينين يقظتين، لا تراودهماالأحلام الفاتنة.
وقد كشف الطب عن أمراض مغلغلة مستعصية، في بعض الأمم،
والأسر،والجماعات، والأفراد،
كان التستر سبب استفحالها.
فإذا وقفت التربية المدرسية ووقفت قيادة الفكر عندنا، موقف
التستر والمداورةوالجبن، في مواجهة
الحقائق وواقع الحياة، انتهت بنا أمراضنا النفسية والفكرية إلىاضمحلال محقق.
هذه لمحة سريعة نقيم بها المثال والمقياس فقط، ومجال
الحديث فيها بعد، ما يزالواسعاً جداً.
عرفنا مما تقدم، الفضائل وجماعها، وقوامها فما عماده الذي
ينهض بأعباء رسالتها، والذي يكون سلاحها وحامل لوائها؟
إنه الرجولة، ولذلك اخترنا أن يكون عنوان هذا الحديث
“الرجولة عماد الخلق الفاضل” ولذلك سيكون خاتمة
حديثنا، تحليلنا للرجولة.
إن الرجولة كالجمال قانونها فيها، ولذلك كانت أساس نشأة
الفضائل في الأطوار الأولىالتي تحدثنا إليكم
عنها طويلاً.
ونحن لم نر فيما أسلفناه من دراسة وتحليل وفرض (بعد
الغرائز الأصلية، وقوانينضروراتها) أساساً
لنشأة الفضائل، أو نشأة القوانين الأدبية التي نسميها فضائل إلاالرجولة التي كانت رمز القوة، والشعور
بمحاسنها والميل إلى اتباعها وتقليدها.
فالقوة الجسدية بعد أن أدت رسالتها دفاعاً ومقاومة
واكتساباً، وتمهيداً وبناءً
وتقريراً للذات، نزعت أو انقادت انقياداً طبيعياً إلى
إقامة حدود ساذجة لقوانين
أدبية، كانت أشبه بفرائض اختيارية تشد من أزر الجماعة،
وتجعل مدى القوة، أوسع، وأرحب غير شاعرة بأنها فضائل تتصل بدخائل النفس لوضوح
اتصالها بأسباب حياتهاالظاهرة.
لا نريد بهذا التمهيد أن نعتبر الرجولة فضيلة، أو قواماً
لها، لأننا قد انتهينا إلى
أن الحياة قوام الفضيلة، وإلى أن الرجولة عمادها، الناهض
برسالتها، لكنا نريدامتحان هذا الرأي
لنعرف نصيبه من القوة والصحة.
قد يكون الإنسان فاضلاً ونصيبه من حرية الفكر نصيب منقوص،
ويكون فاضلاً، ونصيبه منالغيرة على الحق
والجهاد له، نصيب عادي، ويكون فاضلاً بالقناعة، والعفة، والأمانة، والصدق، والجود.
لكن الرجل لا يكون تام الرجولة إلا متى أخذته نفسه أخذاً
صارماً بفضائل طبعه، وأخلاقه، وإيمانه الصارم، وهذا قانونه..
فإذا لم يكن عفيفاً كان مستحياً، وإذا لم يكن شفوقاً كان
حليماً وإذا لم يكنإيثارياً كان محسناً،
وإذا لم يكن قنوعاً، كان شهماً، أنوفاً، وإذا لم يكن رحيماًكان عادلاً..
وقد حللنا إعجابنا بالفضائل وقلنا إنه إعجاب بقيمة شيء نرى
مشقة في اكتسابه، وانتهينا إلى أن الفضائل ترمز إلى القوة، أو تقرب أن تكون محاولة
قوة.
أما إعجابنا بالرجولة الناضجة، فليس إعجاباً بالقوة فحسب،
بل هو إعجاب بحرية هذهالقوة في أروع
مظاهرها.
فالفضائل قوة بأثرها، وإشاراتها، وغلابها للنفس، لأنها
اكتساب وممارسة.
فقوة الرجولة إذاً قوة حرة، تؤمن بحريتها، إيماناً صارماً.
ومعظم الفضائل، انحراف نفعي مستور، بمطالب النفس،
وأنانيتها الخفية، وقد سبقتالإشارة الواضحة إلى
هذا.
ونحن نعرف الرجل بطبعه القوي، وقانونه الصارم في نفسه،
وضراوة فطرته المجردة، وباتزان خطوات هذه الفطرة، والاستجابة الاضطرارية لها..
نعرف الرجل بهذا، وقد يكونمجرداً من الفضائل
الهنية المستحبة والمزايا الكسيحة.
فالرجولة قوة في ذاتها، ولكن الفضائل قوة بما فيها من سمات
الشعر وشياته، فهي قوةفي مجال الفتنة، لذلك
كانت بواعثها تهذيبية محضة.
ومن الأمثلة التي تضرب في هذا الموقف الدقيق للتقريب، مثال
رجل يملك ألفين فيجودبنصفها ورجل يملك
واحداً فيجود بنصفه.
فالمقارنة المادية الجامدة تضع واهب الألف في القمة، لكن
المقارنة الفكرية الدقيقة، تقدم عليه ضده، لأنه يهب مادة حياته، ومادة أمله، فما
يبقى له بعدما يهب ما تصيب بهالحياة أقل مطالبها،
وواهب الألف يهب ما لا تفقد بعده النفس أحفل هذه المطالب.
ذاك يهب من نفسه، وهذا يهب من ذخيرته الطائلة.
ذاك تكلفه نفسه أن يهب، لأنه يستحي ألا يفعل فهو قوي وهذا
يستجيب مختاراً أو مضطراًلما يجب أن يستجيب له
الغني المجدود، فهو أقل قوة.
ذاك يعطي من نفسه لا ليأخذ، وهل يحلم أن يأخذ بنصفه شيئاً؟
وهذا يعطي من ماله ليأخذ.. يأخذ إكبار الناس، وبعد الصيت،
والمكان المرموق، والمثلالمضروب.
إذا دخل واهب الألف من باب الكرم، والتضحية الضخمة،
والفتنة، دخل واهب النصف من بابالرجولة الشامخة.
ففي الحياة إذاً مسافات وأمداء ما تقاس بالذراع، لكن
بمقاييس الفكر والضمير.
وأنا إذا ذهبت أقيس الرجل بصداه في جيله، فإنما قمت أقيسه
بأفضل المقاييس، وأكثرهاخداعاً، لأني ناظر
إلى السعة الظاهرة، لا إلى العمق المتخيل.
فالرجولة هكذا تكون مقلة، ومنزورة، وتكون ضعيفة، وهزيلة،
في منطق الموازين الجامدة، ولكنها القوة، والحياء.. والرحمة والعدالة.. في منطق
الضمير ووزنه.
يتزحزح الفاضل بفضائله قليلاً أو كثيراً، فلا تشيل كفته
الراجحة في العرف وموازينهبهذا الانحراف، لكن
الرجل لا يستطيع الانحراف بهذا القانون القائم في دمه ناراً، قبل أن يقوم في نفسه
مبدأ وإيماناً، فما يرضيه الحق حتى يكون حقاً كله، ولاالرحمةحتى تكون حسماً
لبواعثها فيمن يستحقها، أو فيمن يلتمسها، ولا الحياء حتى تكون قوةتصدّ النفس عن مواطن الشبهات والضمائر
والرذائل، وحتى يكون قوة تذهب بالهمة في أسمىمعارج السمو.
ولو كان كل هذا، أو بعضه مستحيلاً في نظام الحياة المطرد..
ولو كان هذا كمال معنىالرجولة، وتمامها
ونضوجها.
وهذا قانونها!
أعود بكم إلى تعريفي التمهيدي للرجولة.. فقد كان تعريفاً
رمزياً، أو كان تعريفاًمدرسياً تبنى فيه
النظرة على نتائجها، التي هي الأسباب مجتمعة، ولكنها ليست النظرةمفصلة.
قلت إن الرجولة مجموعة من الصفات الرائعة، في الرجل الرائع.
أما الرجل الرائع فهذا الذي جردت لكم الحديث عنه، وأقمت
صورته عارية. وأما الصفاتالرائعة فهي: القوة،
الجمال، والحق. القوة تقابل الحياء. والجمال يقابل الرحمة، والحق يقابل العدالة.
فالرجولة إذاً قوة وجمال وحق هذا قانونها وهو قانون الحريةأيضاً وهو قانون الإنسانية السامية أما الفضائل فجمال فقط.
أحسبكم لا تجدون صعوبة في موافقتي على تجريد الفضيلة من
القوة دون الحق، ولكنيأجردها من الحق أيضاً.
وأنا لا أمتهن الفضيلة بهذا التجريد القاسي، ولا أغض من
قيمتها إنما أريد التحديد، فإذا كانت الفضيلة تهب لتأخذ، لم تكن قوة، ولو كان هذا
الأخذ من وراء ستورهالكثيفة، لذة فكرية،
أو متاعاً نفسياً، أو مطلباً فكرياً..
وإذا لم تكن الفضيلة إيماناً صارماً بالتضحية، والجهاد
الصادق للحق والعدالة، لمتكن حقاً، ولو بقيت
بعد جمالاً ظاهر الفتنة للعيون، وصوفية تغذي المشاعر، ولا تكونالضمير.
وهنا موضع التحرز من خطأ، فلقد قلت في مطلع حديثي إن
الرجولة في الطور الأول للحياةكانت صفة القادرين
على الاحتيال لتوفير الطعام وإقامة المأوى الواقي، وهي بهذاالتحديد تكون مزية سابقة في نشأتها لنشأة الفضائل، أو
السجايا، التي لا يجيء دورهافي النشأة منطقياً
إلا بعد اتساع أفق الحياة، وتشعب مسالكها.
وقلت إن الغرائز في الإنسان مصدر أنانيته، وإن الإنسان،
الغريزي لا يتعدى حدودذاته، فلسائل أن
يسأل، كيف كانت الرجولة طبعاً وفطرة، وقانوناً في الدم، وقد كانتأنانية.
والجواب على هذا السؤال، أن الرجل أناني لا شك في ذلك،
ولكنه في هذه الأنانية عادلفهو ما يرضى أن ينال
حقه، حتى ينال كل حقه، وحتى يكون الحق مبدأ عاماً لحياةالجماعة، تساهم النفس في الجهاد له بأقصى قواها، وبكل
دوافعها، وليست لها من وراءهذا الجهاد لذة ولا
متاع، يتجلى هذا في دعاة الإنسانية، وفي الفلاسفة، وفي قادةالفكر، والفنانين الموهوبين، والعباقرة، ورجال الثورات،
والعلم والطب والإصلاح، فيأولئك الفقراء
الضعفاء المشردين، الذين تتنكر لهم الحياة حتى ما تبض بقطرة، ويتنكرلهم الناس حتى ما يعرفون الرحمة، فإذا
أصابوا من دنياهم شيئاً، فإنما يكون القليل.
أولئك الذين يعد الفرد منهم حدثاً بشرياً هائلاً، وعاملاً
من أقوى عوامل الطبيعة… لأنه جزء من تاريخ
الحياة الجاهدة، أو جزء من تاريخ الإنسانية.. أو جزء من تاريخأمته.
إن الحياة لا تحابيهم بالنجاح الترابي إلا نادراً، لأنهم
يحتقرون التراب، إنماتحابيهم بصفحاتها
الذهبية اللامعة، لا لأنهم الشذوذ والندرة، بل لأنهم الرجال الذينيقيمون مأتم الحياة، وأعيادها، ويقودون
مواكبها، وجحافلها.. والذين يعملون للحياة، بالحياة، أو بالموت، ومثلهم الأعلى
الحياء، الرحمة، العدالة، أي القوة، الجمال، الحق، أي الرجولة.
ولا أدري مَن مِن المفكرين قال إن الرجل العظيم طفل، لأنه
لا يتصرف بقوته تصرفاًينطبق على مقاييس
العقول الراجحة، ففي هذا القول إشارة إلى أن الرجل إذا أخذته نفسهبقانون الحق والاستجابة للأعمال العظيمة
الخالدة. لم تكن التضحية عنده شيئاًاختيارياً يسير فيه
على قواعد المنطق المرتب، والرغبات الموزونة، إنما يكون مغلوباًعلى أمره، إزاء قوة خفية فيه.
فسعد زغلول لم يكن أفضل المصريين خلقاً، ولا أعظمهم مواهب،
ولا أكبرهم فكراً، ولكنهكان أكثرهم عناداً
وتطرفاً وإصراراً على تحقيق ما يعمل له كاملاً، فهو أكثرهمرجولة.. كان يطمع في الاستقلال التام، ولا يرضى بالحلول
الجزئية على أنها النهايةالتي لا يبقى بعدها
مجال للسعي والمطالبة.
ولو شاء أن يرضى بربع الاستقلال أو بنصفه، لطابق بهذا منطق
العقل والسياسة، ولكنهلم يكن يرض أن تكون
أمته ربع أمة.. فهذا مظهر أنانية الرجولة..
وسقراط في منطق العقل، طفل لأنه شرب السم مختاراً لئلا
يتقهقر عن مبدئه.. فهو رجليقهره دمه، وقانون
قوته، على ألا يصانع فيما يراه حقاً لازماً..
ومن ينكر أن فلسفة العقل متى تسلطت على وزن الحقائق
وتحقيقها، أفقدتهاكثيراً منطبيعة إيجابها وتأثيرها؟
فلو لم تكن الرجولة قانوناً في الدم وفطرة، لما عدت طفولة
لا تعبأ بنفسها في سبيلاستجابتها لمطالب
قوتها القاهرة.
ها نحن نرى أمة. أمة نكرة بين الأمم يعجزها النهضان،
ويصرفها لهوها بالفضائل، عنانتهاج سبيل القوة
والارتقاء، وسبيل الحياة والسمو، فأين القوة والجمال والحق تأخذبيدها؟
أين الرجولة تأخذ بيدها، وتقيل عثراتها؟
الرجولة التي كانت رمز القوة الفعالة في الإنسان القديم!
ورمز سجاياه ومحاسنه في أولى وثباته إلى التطور!
ورمز الحياء والرحمة والعدالة في فجر مدينته المنبثق!
ورمز المبدأ للعربي يوم نهض بأعباء رسالته التاريخية!
أين الرجولة تأخذ بيدها وتقيل عثراتها؟
الرجولة التي ورثها الصحابي الرجل، عن أبيه العربي الرجل،
عن جده القديم الرجل، فكانت عماد مبدئه الإنساني الذهبي.
الرجولة التي كانت النار المندلعة، والثورة الجانحة في
دماء صحابة محمد صلى اللهعليه وسلم، وفي دماء
أعوانه، وأنصاره، على الجهاد للحق والقوة والمبدأ.
الرجولة التي طبعت كل شيء حولها بطابعها الجبار.
الرجولة التي دوت بها صرخة قائد البشرية الكامل محمد صلى
الله عليه وسلم، فاقترعبها قمة المثل
العليا، يوم قال: “والله يا عم. لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر فييساري، على أن أترك هذا الأمر ما فعلت،
حتى يظهره الله، أو أموت دونه!”
هكذا يقول قائدنا الكامل البطل، بل قائدنا الكامل الرجل.
فهذه رجولة رجل، قبل أن تكون فضيلة نبي، وقانون دم قبل أن
يكون سمة خلق فاضل، وعقيدة مؤمن يستهين الموت في سبيل التراجع المفروض عليه دونها،
غير ناظر إلىالجزاء.
هذه قوة، وجمال، وحق، حياء، ورحمة، وعدالة.
حياء من الهزيمة في الحق.
ورحمة للجاهلين بالحق.
وعدالة تأخذ للحق بالحق.
ألا فلتكن دستورنا، كلمة قائدنا الكامل الرجل، لتكن فينا
فضيلة الفاضل، وغيرةالغيور، ومبدأ
المصلح، وفكرة الأديب وعقيدة الوطني الحر، جهاداً يظهره الله، أونموت دونه..
ولا تكن فضائلنا وأخلاقنا، ألاعيب يتنكب بها ميادين الجهاد
والنهوض بأعبائه، ولافخاخاً تقتنص بها
اللذة والصيت، والفتنة، ولا أملاً مطمئناً نخلد به إلى الراحةوالهدوء.
ألا فلا تكن الفضيلة إيماناً، بل مسمى صادقاً لإظهارها،
ونشر لوائها، فما تكونالفضيلة استقامة، حتى
تكون مبدأ يظهره الله أو نموت دونه..
ألا وإن في عنق كل منا رسالة، لا تتم الأمانة إلا بأدائها،
وبإقامة منارها، وبالكفاح لنصرتها، ودحض نقائضها.
ألا وإن تاريخ كل أمة حية يقيم اليوم عيده البهيج.. فهل ترضى
رجولة الرجال فيهذهالأمة أن يقيم تاريخها مأتمه الباكي؟..
سادتي -إخواني ردّدوا معي:
أين التربية.. أين المدرسة.. أين الرجولة.. لتعرفوا لماذا
يقيم تاريخنا مأتمهالباكي؟